شمس
وقفت طويلا تتأمل انعكاس صورتها في المرآة الماثلة على أحد جدران غرفة نومها في الفندق ، يجب أن تكون الصورة النهائية مثالية –من وجهة نظرها على الأقل – تمايلت أمام المرآة ذهاباً وإياباً لتتأكد من أن فستان الساتان الأسود ذو الذيل الممدّد خلفها على سجادة غرفة الفندق الفخمة مطابقاً لمقاييسها الخاصة ، فأن تحصل على فستان يضمن لك إطلالة خاطفة وفخمة من النظرة الأولى ، عليه أن يتماشى أيضا مع رؤية أن يكون محتشماً لائقا بامرأة محجّبة في نهاية العقد الثالث من عمرها .
استدارت حول نفسها لتتأكد من أن الفستان لا يلتصق بجسدها تاركاً للقريب والبعيد فرصة فتح حوار ساخن حول علاقة الفستان الحميميّة بجسدها عوضاً عن الحديث في موضوع كتابها الثالث الذي ستشهد بعد ساعة من الآن حفل توقيعه في واحد من اكبر فنادق الدار البيضاء .
هل أصبح الزّمان منصفاً إلى هذا الحد حتى تشهد كاتبة –لا بأس بها – مثلي حفل توقيع ٍ لكتابها بمثل هذه الفخامة؟! .هكذا كان تقييمها لنفسها بعيداً عن ألسنة الصحف المعسولة المتشدّقة ، وأروقة الادباء التي باتت مجالس رياء لكل مستحدثٍ ومدعوم من الأنظمة وإن كان ركيكاً .
نعم ، لا باس بي ، لا بأس بي وحسب ، والزّمان لم يتغيّر بل على العكس هذه عادته ، تارة ً تجده بساطاً سحريّاً يحملك على جناح السعادة إلى تخوم السحر والحريّة المطلقة طالما امتلكت قياده في يديك بالمال والسلطة ، وتارة أخرى تراه سوطاً يجلدك حتى تخرج روحك متلهّفة للقاء الموت مواسياً لعذاباتها دون أن تراه .
نظرت إلى وجهها المصقول ببراعة في المرآة ،والوشاح الذهبي يلتفّ حول وجهها وعنقها لينتهي على كتفها من الخلف ، ابتسمت عندما تذكّرت تجربتها للوشاح في المتجر الفاره الذي زارته البارحة ، طلبت من منسّقة الملابس هناك ان تأتيها بهذا الوشاح ،قالت لها : أريد هذا الوشاح الذهبي لو سمحت .
مطّت المنسّقة شفتيها بامتعاض لم يكن بادياً تماما لولا إصرارها على تصحيح الموقف بنبرة الخبير الواثق لتقول :
هذا اللون ليس ذهبيا ، إنه يسمى (اولف ) ، وهو إحدى درجات اللون الأخضر ،وناولتني الوشاح لأجرّبه .
(اولف) ؟؟قلت في نفسي وماذا يعرف أمثالك عن الزيتون ؟؟ فالزيتون في بلادي لا يملك لوناً موحّداً ، للزيتون في فلسطين قوس قزحه الخاص ، يتدرّج من الأصفر إلى الأخضر بدرجاته حتى الأسود … بل وستجد زيتوناً احمر مضرّجاً بدماء الشهداء .
لماذا تتذكر هذا الآن ؟؟ عادت لتتأمل المرآة من جديد ،إنهم بارعون في صقل كل شيء عدا بؤبؤ العين ، إنها تكره النظر في عينيها بل في وجهها كله، لطالما كانت كذلك ،تغسل وجهها دون النظر إلى المرآة ،دون مواجهة عينيها ، وكانت نتائج كل مرة لم تستطع فيها تحاشي النظر إليهما مؤلمة لقلبها.
هل كل شيء على ما يرام ؟!
ربما … ربما كان عليها وضع عدسات لاصقة ، تستطيع اختيار أي لون .
لا ،هذا يخالف ما اعتادت عليه نفسها من البساطة والتلقائية ، لن تكون واحدة أخرى من الأخريات اللاهثات خلف صيحات الموضة وأقنعة الجمال المزيّف ، كما أن هذا لا يتلاءم مع كاتبة للأدب الواقعي اعتادت تجريد هذا المجتمع من زيفه وكذبه ، وواظبت على كشف عوراته مطالبة بوضع حدّ لكل ما تمر ّبه الامّة من أزمات .
حاولت تحاشي النظر إلى انعكاس عينيها كطفل يخشى انكشاف كذبه أمام أمّه إن هي نظرت في عينيه ، لكنها لم تستطع ، كانت الحدقتان تبدوان كثقبين اسودين على صفحة المرآة ، أخذا بسحبها شيئاً فشيئاً بسرعة الضوء عبر ممرّ مظلم ،لولبيّ عميق وكأنها في قلب عاصفة هوجاء حيث اختلطت موجودات هذا العالم بعشوائية مشكّلة لوحة سريالية مخيفة ، تسارعت حركتها باندفاع نحو المجهول، لم تملك من أمرها شيئاً إذ أخذت الصور والأشخاص والأشياء تتطاير من حولها بصخبٍ مفزع ، أغمضت عينيها محاولة تجاهل ما يحدث لها ، لم تكن هذه رحلتها الأولى في النفق المظلم ، لكن هول الأمر يجعلها تقابله بالصدمة ذاتها في كل مرّة .
وفجأة وكما في كل مرة ، توقّف كل شيء وساد سكون مهيب فتحت عينيها ببطء لتجد نفسها فوق شجرة زيتون، ترتجف قدماها في محاولة لتثبيت نفسها على الشجرة ، ويدها تمتدّ لتقطف حبّات الزيتون من غصن قريب ، وقد كساها الغبار تحت أشعة شمس تشرين .
ناداها صوت ضاحك من خلفها : شمس ألم يكن أسهل لو انك صعدت السلّم ؟!
التفتت إلى مصدر الصوت لتجد شاباً عشريناً أسمر وسيما يقطف حبّات الزيتون بمهارة وهو يقف بثبات على سلّم خشبي طويل ، تسمّرت في مكانها وهي ترمق الشّاب بملامحه المألوفة .
أكمل كلامه : انتبهي جيدا لا نريد ان نضيع أي حبّة الموسم ضعيف هذا العا ..
وقبل أن يكمل عبارته كانت قدمها قد انزلقت عن الجذع الذي كانت تقف عليه ،ليفقد جسدها اتزانه وتسقط مرتطمة بالأرض بقوة .
انتفض جسدها وأخذت دقات قلبها تتسارع ، بينما كانت يد تربت على كتفها وتسندها كي لا تسقط .
شمس ؟ ماذا حدث يا حبيبتي ؟! شمس ! ،
أسندها الرجل إلى صدره محاولاً تهدئتها باحثا بعينيه عن كأس من الماء، بينما كانت هي تلهث بأنفاس متسارعة وقد فرّت من عينيها دمعتان ، حاولت تمالك نفسها قائلة : لا بأس … فاضل لا بأس .. انا بخير ..
أمسك فاضل كأس الماء مقرباً إياه من شفتيها ، شربت قليلا واستعادت قواها ، تصنّعت ابتسامة سريعة في محاولة لطمأنته .
-فاضل لا بأ………..
-شمس ؟! ألم يحن وقت عرضك على طبيب نفسي؟!
-طبيب نفسي ؟ فاضل ! هل تظنني مجنونة ؟؟
-انفرجت أسايره راسماً على محيّاه نظرة حبّ معاتبة ، وضع رأسها بين يديه ماسحاً بإبهامه دمعة من عينيها وقال : أنت تعرفين أني اكثر شخص يعرف أنك أعقل مرأة في هذا العالم ، وحبيبة قلبي التي لا حياة لي دونها ، لكن الأمر هنا يا شمس وأشار إلى قلبها ، واكمل : سيعلّمك الطبيب التّذكّر، انت بحاجة إلى التّذكّر من أجل النسيان .
-فاضل لا يمكن للإنسان ان ينسى ذاته ووجوده .
– أنا أقصد ان تنسي جروحك
– وإن عرفت أنّ هذه الجروح لن تتوقّف عن النّزيف حتى بعد أن أنكأها من جديد ، فهل ستبقى على رأيك ذاته ؟؟ .
-شمس ، انت بارعة في إخفاء الأمر وتجاهله ، تعرفين كيف تصنعين عالماً مغايراً لما في قلبك، كما أنّك بطريقةٍ او بأخرى درّبت عقلك على تجاهل ما تخشين مواجهته .
وهذه ميزة ،لكنها تضمن لك الهروب لا اكثر ، أنت بحاجة إلى المواجهة ؟
-أواجه من ؟؟
– أعظم شجاعة هي شجاعة ان يواجه المرء نفسه ،عليك أن تواجهي نفسك من داخلها .
-إذن ، أنا جبانةٌ في نظرك ؟؟
-بل أنت شجاعة يا حبيبتي ، لكنك تخشين الندوب التي تسببها المواجهات، لكن اعلمي أن التجاهل سيستنزفك اكثر مما لو واجهت الأمر .
-على كل حال ،ربما ستكون هذه آخر مرة .
-هذه المرّة المئة التي تقولين فيها ذلك .
-هل مللت مني ؟؟
-شمس، ما هذا الكلام ؟ وضمها إليه بقوة قائلاً : أتمنى لو كان بإمكاني ان اعالج جروح قلبك بيدي . كان يغمرها كموج بحرٍ طاغ ٍ بدف ٍ حميم ، أخذ صدرها يضيق وضربات قلبها تتسارع
نظرت خلسة إلى ساعة يدها الذهبية والتي كانت تشير إلى الخامسة والنصف وفي محاولة ذكية للتّملّص من هذا الموقف الذي ربما حقاً قد وقعت فيه للمرة المئة كما قال .
-فاضل بقيت ساعة على موعد توقيع الكتاب ، يجب ان نكون في قاعة الفندق الكبرى ، لا تنس ان لك ضيوفاً مهمّين أنت أيضا.
رفعت رأسها عن صدره ،بعد أن حرّرها ، وتأمّلت وجهه الهادئ الذي خلا من أي وجود للشعر بالإضافة إلى رأسه الحليق كليّاً .
كانت عيناه العسليتان تشعّان وداعة ، وعلى شفتيه ابتسامة طفل لا يفتأ يواجه بها عواصف العالم كله ، ويده التي كانت تسندها كانت البلسم الوحيد الذي عرفته في حياتها المليئة بالألم .
ومع ذلك فها هي الآن تحاول التملّص بكل وقاحة من حضنه الدافئ ، لم تعتد عليه بعد ،او ربما لم تعتد هذا الحنان ،وربما لن تعتاد أبداً ، لم تكن المشكلة فيه ، تعلم تماماً انها السبب ، هل انا السبب حقا ؟!
عدّلت ربطّة عنقه بحركة عمليّة سريعة وهمّت بالابتعاد حين باغتها بعلبة مخمليّة حمراء يتوسّطها خاتمٌ ماسيّ برّاق يتلألأ تحت أضواء الغرفة ببريق أزرق مميّز .
-ما هذا يا فاضل ؟؟
-لم اجد مناسبة أجمل من هذه لأهديه لك ، أتمنى أن تضعيه في يدك هذه الليلة .
-أنت تمز ….. أعني ، حبيبي ، هذه هدية رائعة وباهظة جداً ، لكن لا يمكن ان أرتديه الليلة
-لماذا ؟ ألم يعجبك ؟
-يعجبني ؟ ليس الأمر كذلك ،أعني، إنه رائع ،، ولكن انت تعرف ، هذا تجمّع أدبي ، لا مجال فيه للمظاهر الباذخة إلى هذا الحدّ .
-(ابتسم) كان عليّ توقع ذلك ، لا بأس سنجد مناسبة أخرى له ، سأبتدع واحدة من أجل ان أراك ترتدينه.
ابتسمت ابتسامة ترضية صغيرة قبل أن يتابع قائلاً:
عليّ الذهاب الآن سأنتظرك خارج الغرفة في الممرّ ، هيا لا تتأخري .
وضع الخاتم بعبوته المخمليّة على طاولة قرب المرآة وانسحب بهدوء .