تحدّثنا عزيزي القارئ في المقال السابق كيف كان لحركة الكشوفات الجغرافية الأثر البالغ في انفتاح الوسط والجنوب الإفريقي على العالم وتحديداً أوروبا ، بينما سبقت هذا الانفتاح قرون حافظت فيها إفريقيا على طابع حياتها الفريد والمختلف عن نظيره سواء في الشمال او حتى في آسيا وأوروبا ، وبالطبع بقي الإسلام ملمحاً حاضراً وبقوة على الساحة الإفريقية ، رغم تأثره بمحيطه قوةً وضعفاً وفقاً لفترات الازدهار او الفتور .
واليوم سنتوقّف عند محطّة تاريخيّة هي الأقوى والأعنف التي غيّرت مصير هذه القارّة وأبنائها إلى الأبد .
كما ذكرنا سابقاً قامت ملكة قشتالة “ايزابيلا ” بتمويل حملة الرحّالة “كريستوفر كولمبوس” للبحث عن طريق جديد إلى الهند ، دون الاضطرار إلى المرور من أراضي المسلمين ودفع الضرائب لهم .
ربما لم يكن تمويل الرحلة في ذلك الوقت –على أهميته – الهمّ الأكبر لكولمبوس ، ففكرة الالتفاف حول إفريقيا والخوض في المحيط الأطلسي –بحر الظلمات – المضطرب الأمواج دائما ، واعتقاد السواد الأعظم من الناس في ذلك الوقت وإيمانهم بنظريّة الأرض المسطّحة جعل الحصول على طاقم، المهمّة الأصعب لهذه الرحلة .
ويذكر هنا التاريخ عزيزي القارئ أن الأمور وصلت إلى حدّ اليأس ، لدرجة أنّه لم يعد أمام المشرفيين على الرحلة سوى القيام بإطلاق سراحٍ مشروط لسجناء مجرمين ولصوص ، وإرسالهم في هذه البعثة خدمة منهم لوطنهم ، فإن نجوا فهم أحرار وإلا فالموت كان سيكون مصيرهم على أيّة حال .
التاريخ المتداول لسنوات –في الكتب المدرسيّة تحديداً- لا أعتقد أنّه سيتغيّر ليخبرك بالحقيقية الآتية أيها القارئ العزيز ، لكن اعلم أن ما أقوله لك صحيح وموثّق في مصادر تاريخيّة عديدة بل وفي برامج وثائقيّة تمّ بثها على شاشة التفاز .
لعلّك تتساءل ما أول شيء قام كولمبوس برؤيته عند وصوله للعالم الجديد ؟ ،عليك ان تعرف اولاً عزيزي القارئ أن كولمبوس لم يصل في رحلته الأولى إلى الساحل الأمريكي المعروف حالياً ، بل وصل بداية إلى هايتي إحدى جزر الكاربي .
تقول المصادر التاريخيّة المطلعة على مذكرات كريستوفر كولمبوس أنّه وبعد وصفه لطبيعة تلك البلاد ومياهها وقومها ، ولغتهم ، واكتشافه عدم تطابق ما لديه من معلومات حول الهند مع ما يراه أمامه ، وبناء على قراءات الفلك في المنطقة اكتشف كولمبوس أنّ الأرض التي تحت قدميه ، ليست الهند ، بل وأكثر من ذلك ، إنها عالم جديد !
تواردت أنباء عن أن كولمبوس ذكر في مذكراته أنه رأى مئذنة مسجد على قمة أحد الجبال في كوبا ،وهذه دلالة واضحة على وصول الإسلام إلى الأراضي الجديدة ،قبل حركة الكشوفات الأوروبية ، وهو ما أكّده العديد من الباحثين من أنّ المسلمين اعتادوا على نشر الإسلام أينما حلّوا دون أن يوثّقوا قدم السبق لأنفسهم في الأراضي التي وصلوا إليها وإن كانت مناطق جديدة .
كشف كهذا سيبرر لاحقاً الكثير من الاعمال الإجرامية التي قام بها المستعمرون الجدد ضد السكّان الأصليين بحجج واهية ، كوصفهم بالهمجيين ، أو اتهامهم بمعاداة القادمين الجدد وعدم تقديمهم أي نوايا للتعايش السلميّ .
لك أن تتخيّل عزيزي القارئ الصدمة التي كانت على وجه الملكة ايزابيلا عندما علمت أن أراضيها الجديدة المكتشفة يسكنها مسلمون ! وهي بالكاد استطاعت التخلّص منهم هنا في إسبانيا –الأندلس-
ولك أيضاً ان تستشعر مدى الألم الذي أصاب مورسكي مسكين –اسم يطلق على مسلمي الاندلس بعد سقوطها – هرب بدينه بعد ان فقد كل ما يملك ليتوجّه إلى العالم الجديد بحثاً عن حياة جديدة ، ليجد آلة القتل ذاتها قد اعدمت أسرته وأحلامه للمرة الثانية ، ولكن في مكان آخر .
لن يعترف تاريخ الغرب أبداً بحقيقة أن الحرب التي دارت لقرون منذ اكتشاف العالم الجديد ابتداءً بما قام به بحارة كولومبوس بتوجيه مباشر من قائدهم من قتل واختطاف وتعذيب لأبناء القبائل الأصلية حتى يدلّوهم على أماكن تواجد الذهب والفضة ، مروراً بالخدع الإجرامية كتلويث ملابس وأغطية بقيح مرضى الجدري وإهدائها للسكّان الأصلين كبادرة حسن نيّة مات فيها مئات الألاف من الضحايا الذين لم تمتلك أجسادهم أي مناعة ضد هذا لنوع من الامراض ، وليس انتهاءً بسلسلة معارك “البلاك هيلز” التي خاضها الامريكيون الجدد ضد السكان الأصليين في بلاك هيلز بعد اكتشاف الذهب فيها ، وقرارهم بهدم الموطن الأصلي لهذه القبائل .
حتى أعرق الحضارات كحضارة “الإنكا” وغيرها ، كانت لا تزال في أوج قوتها ، عندما قام الإسبان بهمجيتهم وعنجهيتهم بتدمير كل ما يخصّ هذه الحضارة من تراث أو مخطوطات او كتب ، تماماً ذات العنجهية التي دمّرت المساجد والحمامات والمكتبات في الاندلس .
يتفق المؤرخون على أن أفول شمس حضارة ما ، يتبعه شروق شمس حضارة أخرى
عام 1492 أفلت شمس المسلمين في الشرق عند سقوط الاندلس ، وفي العام ذاته 1492 أيضا ظهرت الأراضي الجديدة التي ستصبح يوماً ما حضارة أمريكا العظمى ، وشتّان بين الحضارتين
فحضارة قامت على الدين والعلم والأخلاق باقية وإن ضعفت إلى حين ، وحضارة قامت على الظلم والتسلّط والعدوان والدّم زائلة مهما طال أمدها .
وللحديث بقيّة ……