أمّ اللّوز ….. وأثر الفراشة

تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام في فلسطين بأخبار امتحانات الثانوية العامة ، ذلك الامتحان الّذي يحدد المصير الاكاديميّ لآلاف الطلبة سنوياً ، وما يترتب على تنظيمه من أرقٍ وقلق للطالب والمعلم والاهل والمنظومة التعليميّة برمّتها على مدى عامٍ كامل .
الاهتمام بمجريات سير هذا الامتحان تلقي بظلالها فوق كل بيتٍ فلسطيني ، وتتباين الآراء ما بين داعم ٍ للوضع القائم، الذي يرى فيه تقليداً متوارثاً وشرّاً لا بد من خوضه ، وبين رافضٍ لأساليب التقييم التقليديّة “الظالمة” التي لا تتلاءم مع البيئة التكنولوجيّة الحديثة ومعطياتها، منهم من يرى فيه اختباراً تعجيزيّاً للعقل والذاكرة ، ويطالب بتخفيف مادّته وتبسيط صيغته ،ومراعاة الفروقات بين مجتازيه من الطلبة ، وآخرين يتهمونه بالضعف ويطالبون بإعادة أمجاد التعليم القديم وهيبته التي ما كانت لتسمح للنسبّة المئوية للناجحين فيه أن تزيد على النّصف .
وأمّا الطالب وأهله فهما أبعد ما يكونان عن ساحة هذا الجدل فما يشغل بال الطالب هو توثيق نتيجة ٍ تأهّله لتحقيق حلمٍ ما كما درج وفعل من سبقوه، ليبني مستقبلاً مشرقاً مفروشاً بالأحلام الوردية ، ويرى الاهل فيه انتصاراً محتملاً لوريث العائلة الذي رفع اسمهم وتميّز على أقرانه ليصبح الطبيب فلان او المهندسة فلانة ،أو خزياً وعاراً يلاحق العائلة وابنها ولو لفترةٍ من الوقت .
بعيداً أن الأحلام المشروعة الّتي يرغب الشباب بتحقيقها ، والامجاد العظيمة التي يحاول الأهل تسطيرها في التاريخ ، نعود إلى صلب القضية الهدف من وراء امتحان الثانوية العامة .
تخرج علينا يومياً مواقع تربوية وإعلامية وصفحات ٌ إخبارية ترصد ردود أفعال الطلبة حول كل امتحان ٍ يتم اجتيازه ، وكانت أن خرجت علينا إحدى الطالبات لتصرّح بحبور ٍ وفخرٍ واضحين عن مدى سلاسة الامتحان ، وسهولة الأسئلة التي جاءت مباشرة دون أي تعجيز او تعقيد ٍ يُذكر ، إلى هنا كان التصريح طبيعيّاً تماماً ، لكن ما قالته الطالبة لاحقاً كشف صراحة ً عن مدى الفشل الّذي مُنيت به المنظومة التعليميّة والاخلاقيّة في الوطن .
تتابع الطالبة قائلة ” ان الامتحان كان لوز” –في إشارة منها إلى سهولته- وأنّ ” اجا واحد غششنا أسئلة ضع دائرة 40 علامة بسهولة أخدناهم هيك ” .
بصراحة لن أستطيع تمثيل دور المصدوم بما سمعت من طالبة تمثّل شريحة واسعة ً من أبناء جيلها ” بناة المستقبل ”
ولن أطالب صارخة ً بإعادة هذا الامتحان، أو العبث في بروتوكولات التصحيح ، او اخذ اسم المدرسة التي سمحت بهذا المهرجان المعرفي المفتوح ،أو فتح تحقيق حول مجريات تنظيم امتحان الثانوية العامة ، كل ما سبق هذر لا داعي له ، فالماضي لا يعود ، وما قيل وحدث بات الآن تاريخاً ، وهنيئاً لمن اغتنم الفرصة .
كما أننا لسنا في معرض محاكمة الطالبة التي تحوّلت خلال ساعات إلى ” ترند” و “هاشتاخ ” حيث اعتبرها البعض مادّة للفكاهة والتّندر ، وعضّ البعض الآخر على أنامله غيظاً من تكشّف منظومة الغشّ التي من الواضح أنها ليست مجرّد تصرّفات ٍ فردية لطلبة او مراقبين هنا وهناك .
لنترك هذا كله ، وإذا كنا نريد ان نحاكم أحداً ما على ما سبق ذكره فعلينا كمجتمع أن نضع أنفسنا في قفص الاتهام
فنحن المجرم، ونحن الضّحيّة .
شاهدت الفيديو أكثر من مرّة ، اعتقد أنّي ضحكت في المرّة الأولى ، تذمّرت في المرة الثانية ، واشتعلت النّار في عقلي وقلبي في المرّة الثالثة ، وأودّ أن أشارككم من يجول في خاطري .
أولا: من الواضح أن هناك شبكة عامة للغشّ المُمَنهج في امتحان الثانوية العامة ، ولسنا بحاجة إلى فيديو هذه الطالبة لتأكيد الأمر ، ففي كل العام تنتشر الأخبار هنا وهناك عن تسريب أسئلة امتحان ما ، أو أن معلّماً شفوقاً رحيماً سمح للطلبة بالغشّ حفاظاً منه على مستقبلهم في مدرسة ما ، أو أنّ طالباً ٍ تغنّى بقدرته على إخفاء ” البراشم والروشيتات ” والنقل منها دون أن يراه أحد –أو لعله رآه ولم يفعل شيئاً – .
ثانياً: تواطؤ المجتمع بكل أفراده مع منظومة الغشّ ومفهومه ، فالأهل لا يستنكرون الغشّ على أبنائهم بل يتفاخرون “بذكائهم ” في خداع مراقبي القاعة ، الامر الّذي عزز الغشّ كمفهوم مرتبط بالذكاء والمهارة ، وهو ما جعل الطالبة المذكورة في الفيديو تتحدّث عن الغشّ وكأنه قيمة أخلاقية تلازم الامتحانات ،وكأننا لم نتربّى على قوله عليه الصلاة والسّلام ” من غشّنا فليس منّا ” بل تمترسنا خلف المفهوم الميكافيلّلي ” الغاية تبرر الوسيلة ” .
ثالثاً : انهيار صورة المعلّم ، الّذي من المفترض أن يكون هو وهو تحديداً الوجه المشرق في كل بلد ، اشتراك الكثير من مراقبي القاعات في عمليات الغشّ أو على الأقل تسهيل الوصول إليه ،وهذه جريمة اجتماعية أخلاقية أرى أننا يجب أن نقف عندها متأمّلين طويلاً .
أي نموذج ذلك الّذي يقدّمه معلّم متواطؤٌ او مشارك في جريمة هو الأكثر علماً بمدى فداحة أثارها على المجتمع في المستقبل ، وكيف يتجرّأ بعدها في الوقوف للمطالبة بحقوقه المنقوصة ، بل إنّ الجريمة أكبر إن ربط هؤلاء تصرّفاتهم بتقصير الحكومة في دفع مستحقّاتهم ، فالتعليم رسالة قبل أن يكون مهنة .
رابعاً: رغبة الوزارة في رفع الثقل عن كاهلها بترفيع اكبر عدد ممكن من الطلبة إلى الجامعات وهي تعلم تماماً عن اكثر من نصفهم –دون مبالغات – غير مؤهّلٍ لأي تعليميٍ أكاديميّ راقٍ ، ولتحقيق ذلك دون ان تمسّ بسمعة الامتحان وواضعيه ، أبقت على المعايير المتعارف عليها ما امكن وتركت الباقي لميدان يفتقد للنزاهة والعدل .
خامساً: انهيار منظومة التعليم في الصفوف السابقة ، وعدم اخذ الطلبة لأحد عشر عاماً سابقاً لعام الثانوية العامة على محمل الجدّ ، فالغشّ يردم الثغرات ، ويحلّ المعضلات ، ويمحو الفروقات بين الجاهل والمتميّز ، فعلام أخاف من معلّم الصف الثامن إن اقسم على حملي لمادة الرياضيات ، وفيم الخوف إن لم استطع كتابة الهمزة كما يجب عند إجابتي عن الأسئلة ؟ ما الفرق بين الطالب المتميّز الّذي حصّل على تسعين علامة في صفّ ما وبين زميله الذي أعاد السّنة ، إن كان الغشّ بعد سنوات سيكون جسراً يصل فيه الجميع إلى الضّفة ذاتها ” ناجح ويُرفّع ” ؟
ولا تقل لي أن أولئك الّذين تحصّلوا على علاماتهم بالغشّ ستفضحهم عقولهم عند اول نقاشٍ في اول محاضرة في الجامعة ، قد يحدث ذلك في كليّات الامتياز كالطّب والهندسة ، لكنّ مجتمعاً استساغ الغشّ مطية للوصول إلى أهدافه لن يقف في أسلوبه الرخيص هذا عند مرحلة او امتحان ما ، بل سينسحب العفن ليتسلّل إلى كل مرافق الدولة ، تماماً كما تسلّل إلى قلوبنا واخلاقنا من قبل وكما قيل ” من يهن يسهل الهوان عليه ” .
يقول العلماء فيما يسمى علميّاً بأثر الفراشة ، أن حركة جناح فراشة ٍ في أمريكا ربما تسبّب بحدوث إعصار ٍ في الصين ، وعلى هذا المثال كانت تصريحات “أم الّلوز ” التي اقامت الدنيا واقعدتها لا لتغيير شكل التعليم في فلسطين ،والنهوض بهذه البلاد التي تنتظر تحرريها منذ ما يزيد عن سبعين عاماً، بل لتغيير شكل امتحاني التربية الدينية والتكنولوجيا وحسب في استدراك هزيل للفضيحة .

المزيد
سوق القوانين البالية

تباينت الآراء حول العالم بعد القرار الذي أصدرته محكمة العدل العليا الامريكيّة والقاضي بحظر الإجهاض في الولايات الامريكيّة بعد مرور Read more

فيلم من أجل زيكو … هل حقاً الغزالة رايقة ؟؟

تصدّرت بداية هذا العام أغنية "الغزالة رايقة " مواقع التواصل الاجتماعي وصارت حديث الإذاعات والحفلات والمنازل، وأصبحت "ترند" في فترة Read more

قسوة قلب

أتعرف شعورَ أن يخلو قلبك من كل مشاعرِ الرأفة والإنسانية المعهودة؟ أن لا يلينَ فؤادك لأي مشهدٍ مثير للعواطف أو Read more

اللؤلؤ والمرجان من سيرة خير الأنام ( تشويقة لسلسلة)

سلسلة اللؤلؤ والمرجان من سيرة خير الأنام (مقتطفات من كتابي القادم) كان ﷺ مضربًا للأمثال في مكارم الأخلاق: ... كان Read more