تصدّرت بداية هذا العام أغنية “الغزالة رايقة ” مواقع التواصل الاجتماعي وصارت حديث الإذاعات والحفلات والمنازل، وأصبحت “ترند” في فترة قياسية ، نظراً لرقّة لحنها وسهولة كلماتها ، وهو ما عوّدنا عليه الفنّ المصري عامّة ،والّذي بات فنّاً عالميّاً في بعض جوانبه ،إذ أنّ اللهجة المحكية المصرية أصبحت الملاذ الأقصر والاسهل لمن أراد تعلّم العربية .
ومصطلح “الغزالة رايقة” مصطلح مصري عاميّ يعبّر عن الحالة النفسيّة الهادئة والشعور بالرّاحة ، والغزالة إشارة للعيون الجميلة عندما تكون في حالة من السكون الروحيّ ، في دلالة جماليّة عميقة ، لا تخلو من أصل عربيّ عريق .
بالعودة إلى الأغنية والتي كانت جزءاً من عمل سنيمائي صدر بداية هذا العالم وهو فيلم ” من أجل زيكو ” المقتبس عن الفيلم الأمريكي الصادر في 2006 بعنوان “little Miss Sunshine” ، يحكي الفيلم العربي قصّة أسرة مهمّشة، ويرصد مدى الشّقاء والبؤس المادّي والاجتماعي الذي تعيشه في لوحة درامية مميّزة كان للفنّانين المصريين فيها بصمتهم الخاصة بعيدا عن كون الفيلم مقتبساً .
زيكو ابن الأعوام التسعة يتم اختياره لمسابقة الحساب الرياضي العقلي كواحد من أذكى ثلاثة طلبة في مادة الرياضيات على مستوى الجمهوريّة ، ويتم إرسال دعوة لأهله لحضور المسابقة التي تقع في مدينة بعيدة عن مكان إقامتهم . تبدأ التّحديات بالظهور ابتداءً من تفكير الأمّ المتواصل في الطلاق وتأجيلها للأمر بعد سماعها بخبر المسابقة ، مروراً بالأزمة المالية الخانقة والملازمة للأسرة والتي ستحول دون قدرتها على تأمين مبلغ السفر إلى المدينة البعيدة .
تضطرّ الاسرة بعد تفكير عميق إلى ركوب حافلة تكريم الموتى التي يعمل عليها والد زيكو، والذهاب بها بطريقة غير مشروعة وعبر طرقات تتجنّب دوريات الشرطة ،وسط مجموعة من المواقف واللّوحات التي ترصد قضايا ومستويات اجتماعية مختلفة ، وخلال الرحلة تظهر للمشاهد موهبة زيكو ذي الصوت الجميل الّذي يقطع ملل الطريق مع أهله بغنائه ل”الغزالة رايقة” .
تأتي بعد ذلك الصّدمة باتّصال من وزارة التربية تعتذر فيه عن وقوع خطأ تشابه أسماء مفاده أن بطاقة الدّعوة للمسابقة غير موجّهة لزيكو حقا .
يصرّ والدا زيكو على إكمال الرّحلة إلى النهاية وكلّهما أمل في أن تكون هذه المسابقة ضربة الحظ الّتي ستغيّر حياة زيكو وحياتهم إلى الأبد ، وعند وصولهم المسابقة يسهبان في التّوسّل للقائمين على المسابقة من أجل إشراك زيكو ، فزيكو ولد ٌ ذكيّ كلما سأله عمّه عن حاصل ضرب ثلاثة في ثلاثة أجاب الطفل بكلّ ثقة تسعة ! .
يدخل زيكو المسابقة نظراً لعدم وصول زيكو الحقيقي لأنّ الدّعوة لم تصله ،و تنهال الأسئلة الرياضيّة عليه الامر الّذي يشعره بالارتباك ، وتتعالى الاحتجاجات عن الكيفيّة التي وصل فيها هذا الطفل إلى المسابقة ، ليخرج زيكو من أزمته وتوتّره أمام الجمهور ويبدأ بالغناء .
تأخذ الأحداث منحنى تفاؤليّاً عندما يترك المنظمون والصحفيون والجمهور الأبطال الحقيقيين لمسابقة الذّكاء العقلي ، وتتّجه الأنظار نحو زيكو وموهبته الغنائية ، لينتهي الفيلم نهاية سعيدة بعد أن أصبح زيكو فنّاناً مشهوراً وباتت عائلته مديرة ً لأعماله .
يعبّر الفيلم عن مقاربة حقيقيّة يعيشها المجتمع المصريّ في الوقت الحالي ، تتمثّل بالثراء الفاحش والنجومية والإقبال الكبير الذّي يتمتع به أشخاص تحت مسمى “فنّانون” ذاعت شهرتهم بأعمال أقل ما يمكن وصفها به أنّها –إسفاف صريح –وتلاعب بالذّوق العام .
هؤلاء هم ذاتهم –محدّثو النّعَم- الّذين يخرجون على الناس بتصرّفات تظهر مدى البذخ والثراء الّذي يعيشونه ،دون أدنى مراعاة أخلاقية لمشاعر السواد الأعظم الذّي يرزح تحت الفقر .
هؤلاء هم “زيكو ” الّذي استطاع بضربة حظ لا اكثر، وبموهبة صوتيّة لا يد له في تكوينها –فهي هبة من الله تعالى – أن يحظى بشهرة ومال وسط دهشة متنافسي مسابقة الحساب العقلي الّذين يمثّلون حملة الشهادات العليا من أطباء ومهندسين وغيرهم من ذوي الاختصاص والعقول المفكّرة الّذين أشاح المجتمع كلّه بوجهه عنهم فباتوا المنبوذين التعساء بدلاً من أن يكونوا قادة الأمّة وعماد نهضتها .
قد يرى كثيرٌ منّا أن قصّة الفيلم واحدة من قصص عديدة تنتشر هنا وهناك تتحدّث عن –الأشخاص الأقل حظّاً – وأهميّة تسليط الضوء على ما لديهم من مواهب –بعيدا عن الشّق الاكاديمي – ومنحهم فرصة ً للنجاح والتّميّز بعيداً عن مسلك التّميز المتعارف عليه والمتمثّل بالتفوّق العلمي .
لكن هذا التعاطف –على أهميّته – شرع أصحابه يأخذون فيها مكانةً ومساحة لم يعد أصحاب الشهادات والعلماء يحلمون بربعها حتى، سواء كان ذلك على مستوى الشهرة أو حتى الثراء ، الحاصل في مجتمعات اليوم هو حالة من التّنمّر المقصود على فئة من المفترض أنها جوهر المجتمع ووجهه القوي أمام العالم .
لقد بات بمقدور فنّان ما شراء طائرة خاصة والحصول على تأشيرة مفتوحة حول العالم ، تراه يسبح في “بانيو من الدولارات” ، بينما نجد على الطرف الآخر طبيباً مميّزا او مهندساً او معلّماً او حرفيّاً يكاد لا يجد ما يسد رمقه ورمق أبنائه ، تراه يقلّب أمره يميناً وشمالاً وقد غُلّقت كل الأبواب في وجهه ، ليجد في الهجرة ملاذاً أخيراً ينجو به بعقله وعلمه وبدنه .
هذه الحالة المجتمعية دفعت النشء الصغير إلى إعادة التفكير بمستقبلهم ، فلم نعد نجد طالب المدرسة يبحث عن الدّرجات المدرسيّة ليغدو طيّاراً أو محامياً ، بل تراه يخطط لإنشاء قناة على “اليوتيوب ” أو “التيك توك ” ليلحق بركب الأثرياء الجدد بينما هو جالس خلف كرسيّ يتشدّق بنكاته وحركاته البلهاء ، متباهياً بجمعه عدداً كبيراً من المتابعين .
أحقاً هكذا يبدو عالمنا اليوم ؟؟ هل بات صاحب العقل والعلم منبوذاً لعلمه ، وأصبح “أراجوز الشاشة ” قائداً للسّواد الأعظم من الامّة ينامون ويستيقظون على صوته وحركاته ؟؟
لا عجب إذاً أن يتحوّل ممثّل كوميدي في دولة ما إلى رئيسٍ لها يملك زمامها ويتحكّم بمقدّراتها ،لكن الواقعة ستكون عن المآزق فحربٌ واحدةٌ ، او وباء منتشر ، أو اختراق سيبراني ضخم ، كفيل بتذكير العالم كلّه بحقيقة ما يقدّمه نخبة المجتمع العلميّة والفكرية ، في الوقت الّذي يختبئ فيه أولئك المتشدّقون ، وكأنهم تبخّروا ، ليعود المجد إلى أصحابه .
إلا أنّ تعاملنا مع هذه الفئة المقدّرة كتعاملنا مع الصديق الحكيم الّذي نطلبه وقت الشدّة الأزمات للنصح والإرشاد ، وننساه في الرّخاء وأوقات المرح ، نتعلّق بأذيال ثوبه ليلهمنا الحلّ على ما نحن فيه من بؤس ، ونشيح بوجهنا عنه في غمرة النشوى ، تصرّف كهذا كفيلٌ بضرب المفاهيم المجتمعيّة الراسخة وقلب الموازين والأسس التي قامت عليها الأمم والحضارات ، فما قامت حضارةٌ يوماً على ضاربي الدفّ فيها وزمّاريها ، بل بأقلام أدبائها وعقول علمائها ، بتخطيط مهندسيها ، وعدالة قضاتها ، واتّباع الصالح من شيوخها، فأخبرني بالله عليك بعد كل هذا كيف ستكون “الغزالة رايقة “؟؟ .