قسوة قلب

أتعرف شعورَ أن يخلو قلبك من كل مشاعرِ الرأفة والإنسانية المعهودة؟ أن لا يلينَ فؤادك لأي مشهدٍ مثير للعواطف أو انعدام الرحمة اتجاه من حولك، دقق إذًا في ذاك المصطلح المألوف الذي سأسنده بآخر يفي بوصف كل هذا اللغط وهو “القسوة”.

_القَسْوةُ في الاصطلاح واللُّغة هي الغِلَظُ والصَّلاَبةُ وجمودُ القلب وعَدَمُ رحمِتهِ والشدَّةُ في كل شيء، ويُقال أنه اشتدَّ وصَلُب فذهبت منه الرَّحمةُ واللِّين والخشوع.
وإذا بحثنا عن مرادفات هذه الكلمة بين الناس سندرك أنها تتقارب في معنى كلمة «عدوانية» وهذا لفظٌ خاطئٌ قليلًا، فالعدوانية تحمل في رَحِمها الخوف، والتملُّك، والدفاع عن النفس، بينما القسوة خلاف كل ذلك؛ فهي كجسدٍ مُجوَّف الأحاسيس داخليًّا، يرتدي ثوب اللَّامبالاة نحو احتياجات ومشاعر الآخرين، ويعتقد البعض أن القسوةَ للتفرُّد بالهيبة والسطوة بينما يظنُّ البعض الآخر أنه وسيلةٌ للدفاع عن النفس، ومن وجهة نظري أرى أن القسوة ما هي إلَّا عقابٌ عظيم إن أصابَ القلبَ فوداعًا له ولمن حوله، والآن بعدما فسّرت ما هي تلك «القسوة»، أريد أن أفتح آفاق أعينكم وقلوبكم قبلًا لما سأسرده، عن أشدّ أنواع القسوة، أوفظعها تهلكةً، وأبشعها فَتكًا، ألا وهي قسوة القلب وعدم اهتزازه تجاه الخالق والعبادة!

أولًا: ما سبب تلك النوعية من القسوةِ خاصةً؟
1- السهو عن ذكرِ الله والعبادة:
قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
فإن كنت لا تذكر الله في سريرتك وخَبيئتك قبل عَلنِك، كيف يمتلِئ إذًا؟ إن أمعنت النظرَ ستجده يتضاءَلُ!
2- كثرةُ المعاصي:
عَنْ أَبِي هُــرَيْــرَةَ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وإن زاد زادت، حتَّى يعلو قلبه ذاك الرَّان الذي ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]”.
اعلم أن كُلَّ مرحلةٍ مُتَّصلة بأختها إلى أن تُشكِّلَ سلسلة إن انزلقت في أحدها جُرَّت قدمك لإكمال البقيّة؛ فالذنوب تؤدي لغفلةٍ وسهوٍ وعدم اكتراث، وبين فينةٍ وأخرى تحتضن النقاط السوداء بعضها مكونةً ثقبًا أسودًا مُميتًا، مما يحقق القسوة وفراغ المشاعر.

3- التفريط في الفرائض وانتهاك الحُرمات:
قال الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].
وبيَّن ذلك بقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 155].
حيث أنه يفرَّط باستهتارٍ فيما فرضه الله عليه من واجباتٍ إلزامية كالصوم والصلاة، فيبرز جُلَّ إهماله، ومن صلاةٍ منقطعة إلى أكثر فأكثر فتنعدم، ومن صومٍ إلى أقل فأقل فيندثر، ولكن بربك أين نقطة الوصل بينك وبين الخالقِ؟ لقد اختفت، وهذا ما ينهب جلل المشاعر ويولد فتورًا وعدم اكتراث فيعتري الفؤادُ هشاشةً…
4- الانشغال بالدنيا:
قال ابن القيم: “متى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله والاستعداد للقائه، وحلَّ فيه حب المخلوق، والرضا بالحياة الدنيا، والطمأنينة بها، فاعلم أنه قد خسف به”.
الانغماس في الدنيا وشهواتها الزائفة، واللهث نحوها زحفًا دون النظر للآخرة يُنشئ سطحية في دينه، وكما قال ابن القيم: “فاعلم أنه قد خُسِفَ به”.
5- ظلم الضعفاء، وأكل المال الحرام، وعدم التورع عن الشبهات.
6- كبر النفس واحتقار الآخرين.
7- الكسلُ والفتور:
وهو عدو الإنسان الأوحد؛ إذ إن انتشله وأصابه في مقتلٍ استطاع أن يُبيدَ فريسته بدمٍ باردٍ، وقد استعاذ الرسول ﷺ من الكسل، كما في الحديث: “اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل”.
8- عدم الرحمة بالخلق والإحسان إليهم:
فتخيل أن تكونَ إنسانًا شاهد جريحًا فلم يسعفه، أو حزينًا فلم يبهجه أو يروِّح عنه ويمنحه مشاعر ودٍّ ومحبة، فتصبح مجرد آلة للتصدي نحو الإنسانية والتعاطف، فتكسر قواعد اللِّين والطيبة!
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: تقبِّلون الصِّبيان؟ فما نقبِّلهم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: “أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرَّحمة”.
9- الابتداع في الدين:
قال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
فيأتي متحذلقٌ ويتهاون في الأحكام والسنن حتى تغويه أهواؤه مهرولًا نحوها، لذا احذر من مصيبةٍ كهذه!
10- التوسع المذموم في المباحات:
فالقسوة من أربعة أشياءٍ إذا جاوزت قدر الحاجة هي: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة.
قال أبو سعيد الخادمي: (وفي كثرة النوم ضياع العمر، وفوت التهجد، وبلادة الطبع، وقسوة القلب، وفي كثرة الطعام، قسوة القلب).
11- التعصب للرأي وكثرة الجدال:
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].

12- كثرة مخالطة الناس في غير مصلحة:
فلا تأت وتخالط الطالحَ قبل الصالحِ؛ حتَّى تفسدَ مبادؤك وتُناطح السوءَ سُفلًا، إلى أن يكونَ هو السببُ في إبعادك عن ذِكر الله وحُبّه، وبغتةً يُنتشل البياض فتسطو حلاكة القسوة على المكانِ!

وخِتامًا، إن كنت تعاني من إحدى هذه المُعضلات الجِسام فاتّجه سريعًا وعالج الأمر فورًا؛ فمن أعسر الأشياء هو أن يصاب المرءُ بقلبه، وأنّه يكون عقابًا ومرضًا عظيمًا اكتنفه الفؤاد، وَرُبَّ إدراكٍ لخطأ مسبقًا يَنشِلُ داءً جَلل يُميت صاحبه، ورُبَّ إنسانٍ يقرأ ويفهم فلا يهتز قلبه ويصير على حالته، فاللهمَّ أبعِد عنَّا قسوة القلب وتبلدُّ الأحاسيسُ…
والسَّلام.
_جنة أبوالنيل.

المزيد
سوق القوانين البالية

تباينت الآراء حول العالم بعد القرار الذي أصدرته محكمة العدل العليا الامريكيّة والقاضي بحظر الإجهاض في الولايات الامريكيّة بعد مرور Read more

أمّ اللّوز ….. وأثر الفراشة

تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام في فلسطين بأخبار امتحانات الثانوية العامة ، ذلك الامتحان الّذي يحدد المصير الاكاديميّ لآلاف Read more

فيلم من أجل زيكو … هل حقاً الغزالة رايقة ؟؟

تصدّرت بداية هذا العام أغنية "الغزالة رايقة " مواقع التواصل الاجتماعي وصارت حديث الإذاعات والحفلات والمنازل، وأصبحت "ترند" في فترة Read more

مقايضة (شعر حر)

#_مُقايَضة الحِذاءُ الْمُتَّسِخْ هاتفي الْمكسور سيارتي المعطَّلَة والدَّواوينِ التي لم أقرَأها مُكَدَّسَةً في أركانِ منزلي... لا تَصْنَعُ الأشياءُ الْمُسْتَقرَّةُ حولي Read more