سلسلة اللؤلؤ والمرجان من سيرة خير الأنام (مقتطفات من كتابي القادم)
كان ﷺ مضربًا للأمثال في مكارم الأخلاق:
…
كان الرسول ﷺ أحسن الناس خلقًا، وأصدقهم حديثًا، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق الدنيئة التي تدنس الرجال، لقد اجتمع فيه من الصبر والحلم، والتواضع والجود والشجاعة – ما تواتر عنه ﷺ حتى صار مضرب الأمثال في مكارم الأخلاق، وشهد له الأعداء بذلك والأصدقاء. فلم يكذب، ولم يغش، ولم يخن، حتى سُمي بالصادق الأمين، فكانوا يأتمنونه على أموالهم، حتى قال النضر بن الحارث لقريش: (قد كان مُحمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم عقلًا، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صُدغية الشيب، وجاءكم بما جاءكم، قلتم إنه ساحر، لا والله ما هو بساحر).
كما كان مثالًا للشفقة، وذلك على جميع أُمَّته، حتى خاطبه الله تعالى بقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ){فاطر: 8}، وقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ) {الكهف:6}، فلم يؤذ أحدًا بيده أو بلسانه، ولم يقتل أحدًا بيده الشريفة، مع شجاعته العظيمة كما تقدم، وكان يتألم لما يراه من قومه من نهب وسلب وقتل، وكان يسعى للإصلاح بين المتخاصمين. وكان رحيمًا رؤوفًا، يشاطر المصابين آلامهم وينصر اليتامى، ويطعم الجياع. وحين طمأنته خديجة بعد رعبه من نُزُول جبريل عليه السلام، قالت له: (والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحملُ الكلَّ، وتكسبُ المعدُوم، وتقري الضيف، وتُعينُ على نوائب الدهر).
وفي السخاء كان ﷺ مضيافًا كريمًا لأبناء السبيل والفقراء، حتى عوتب بقوله تعالى: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ){الإسراء29}. كما كان مثالًا للتواضع مع الفقراء والمساكين، والشجاعة الفريدة، والنجدة، والعفو مع المقدرة. والحلم، والوفاء، والعدل. والوقار.
كما كان مثالًا في الحياء، حتى إنه لم يُبد جسده عاريًا لغيره، مع اعتياد الناس في جاهليتهم ذلك، وكان ﷺ حلو الكلام، ليِّن العريكة، طلق الوجه، يحبه كل من لقيه أو جالسه، مع النظافة والهندام الجميل. ولم يُقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها، وطريقته المرضية واحدة لم تتغير من أول عُمره إلى آخره.
هذا مع صفاء نفسه من الحقد والأنانية والشك والشرك، فكان يكره عبادة الأصنام والأوثان حتى قبل بعثته، مع أن بيئته نشأت على عبادتها، فلم يحلف بهما، يدُل له ما روي في السيرة النبوية لابن هشام في قصة بحيرا الراهب حين استحلفه باللات والعزى لما رأى قومه يحلفون بهما، قال له ﷺ: (لا تسألني باللات والعزى، فو الله ما أبغضتُ شيئاً قط بغطهما).
وقد كان مثالًا في الزهد حتى أن قريشًا عرضوا عليه المال والرياسة حتى يترك دعواه فلم يلتفت إليهم. كما نجده قد جرَّد نفسه وأهله من كل ما يمكن احتسابه كسبًا أو منفعة، فقد عاش فقيرًا زاهدًا، أمضى جل حياته يعاني آلام الجوع وشظف العيش طوعًا واختيارًا.
قال علقمة بن مسعود: اضجع رسول الله على حصير فأثر الحصير بجلده، فجعلتُ أمسحه وأقول: بأبي أنت وأمي، ألا أذنتنا فنبسط لك شيئًا يقيك منه تنام عليه؟ فقال: “ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلى كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”.
وقال أبو هريرة: والذي نفس أبي هريرة بيده، ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا. وقالت عائشة: إنَّا كنا آل محمد ليمر بنا الهلال (الشهر) ما نوقد نارًا (للطبخ) إنما الأسودان: التمر والماء. إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله ﷺ بلبن منائحهم فيشرب ويسقينا من ذلك اللبن.
وإذا نظرنا للرسول في مواضع الخطر فنجده سبَّاقاً مقداماً، لقد فزع أهل المدينة ذات ليلة من جرّاء صوت سمعوه، فانطلق أُناس قبل الصوت يستطلعون الخبر، فتلقاهم رسول الله راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يطمئنهم ويقول: “لم تراعوا”.
وفي المواقف الحرجة من المعارك يصمد الرسول ويثبت حتى يستعيد المؤمنون المقاتلون الموقف، قال عليّ – وهو الفارس المغوار: “كنا إذا اشتد الحرب واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله، فما يكون أقرب إلى العدو منه”.
وفي الموقف الصعب يوم أًحد جُرح وجه الرسول وكُسرت رباعيته، وكُلمت شفته وسال الدم على وجهه، لكنه ثبت ولم يبرح مكانه ولم يبق معه آنذاك إلا إثنا عشر قُتل منهم سبعة وبقي الخمسة.
وفي الموقف الصعب يوم حُنين تعرَّض المسلمون لكمين أصابتهم فيه السهام والرماح فوُلوا مدبرين، بينما ثبت رسول الله وهو راكب بغلته يدعو أصحابه إلى الثبات، ويقول: “إليَّ عباد الله، إليَّ أنا رسول الله”. ثم يعلن عن نفسه في مواجهة الأعداء ويقول: “أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب”، وما هي إلا فترة استعاد بعدها المسلمون زمام الموقف فهزموا المشركين ووقع في أيديهم أسرى كثيرين.
وإذا كنا في الحرب ومواضع الخطر نجد الرسول قوي العزم جبار البأس، فإنَّا واجدوه مع الأطفال والضعفاء، رقيق المعشر يمزح معهم ويداعبهم، بيد أنه لا يقول إلا صدقاً، قال أنس: كان رسول الله من أفكه الناس مع صبي، وجاء مرة رجل يسأله دابة تحمله، فقال له الرسول: “إنا حاملوك على ولد ناقة”، فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟ فقال له الرسول: “وهل تلد الإبل إلا النوق”.
وقال أنس وقد خدم الرسول عشر سنين: أرسلني يوماً لحاجة فقلتُ والله لا أذهب، فخرجتُ حتى أمر علي صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي. فنظرتُ إليه وهو يضحك فقال: “يا أُنيس، ذهبت حيث أمرتُك”؟ فقلت: نعم، أنا ذاهب يا رسول الله. وقال بعض صحابة النبي إليه: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: “إني لا أقول إلا حقاً”.
وقد عُرف عن النبي عفة لسانه في المواقف التي ترضيه والتي لا ترضيه، فلم يشتهر بتوبيخ من حوله وتعنيفهم، أو ما من شأنه أن يصدهم ويُفقدهم الثقة في أنفسهم، ولم يُسمع عنه أنه قال لهم: “يا قليلي الإيمان” أو “يا أغبياء” أو “إلى متى أحتمل غباوتكم وقساوة قلوبكم” أو شيئاً من هذا التقريع.
ولقد كان الرسول إذا بلغه عن رجل شيء، لا يقول: ما بال فلان يقول…ولكنه كان يوجه خطابه بصورة عامة يستر فيها صاحب السقطة ويعطيه الفرصة ليستقيم أمره، وذلك بقوله: “ما بال أقوام يقولون كذا، وكذا…”.
وكان يقول: “لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا (سيئًا) إني أُحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر”، وكل هذه الرقة وهذه التربية النفسية مع قوم طبعت عليهم البيئة من قسوتها الشيء الكبير.
قال أنس: كنت أمشي مع النبي وعليه بُرد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذاً شديداً حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق رسول الله وقد أثَّرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته….ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك…. فالتفت إليه رسول الله فضحك، ثم أمر له بعطاء…… صلوا عليه وسلموا تسليما….
وفي الختام نسألكم الدعاء أخوكم في الله دكتور صابر البلتاجي.