احتفلت وكالة ناسا أمس مع العالم أجمع بمجموعة جديدة من الصور الفضائية للكون قام بالتقاطها التلسكوب الأدقّ والأحدث على الإطلاق “جيمس ويب” في حدثٍ علميّ ضخم وُصِفت فيه الصّور بأنّها الأعمق والأدق وضوحاً على الإطلاق إذ تحوي الصورة الواحدة على ما يزيد عن 150 مليون بيكسل ،إضافة إلى أن الصورة الواحدة تُعتبر تجميعاً دقيقاً لما يزيد عن الألف صورة من جوانب عدّة، وتمّت معالجة هذه الصور بالأشعة تحت الحمراء وإخراجها بطريقة بحيث تستطيع العين البشرية رؤيتها.
الصور تحكي قصّة تاريخ الكون الّذي تشكّل بعد الانفجار العظيم قبل 13 مليار عام ، وهذا يعني أن ما رأيناه من مشاهد ما هو إلا توثيق لحدث حصل قبل ملايين السنين ويبعد عنّا آلافاً من السنوات الضوئيّة ،ما يعني أننا بحاجة إلى مرور آلاف ٍ أخرى من السنوات قبل أن نستطيع رؤية شكلها في وقتنا هذا ، وستكون الصورة مرّة أخرى عبارة عن لقطة تاريخيّة
ردود الأفعال العربية على الصور التي انشرت بين مواقع التواصل الاجتماعي كانتشار النّار في الهشيم كانت متباينة ، هذا التباين على تنوّعه لم أجد فيه قاسماً مشتركاً بين متبنّي الرأي الواحد ،فلا اتّفق أرباب العلم على صحّة الصّور ومدى مصداقيتها ، ولا اختلف كل العوام في تصديقها والانبهار في أضوائها .
يتمسّك العقل العربي إجمالاً بالمنظور الدّيني لتحليل أي قضيّة تقع في ساحة العلم، حتى ولو لم يكن متديّناً بالأساس، من هنا نجد أن أغلب التعليقات على الصور جاءت انبهاراً وتعظيماً لصنع الله عزّ وجلّ ، وتذكيراً بقدرته تعالى على الخلق وإبداعه فيه ، وتذكير الإنسان بأنّه ذرّة صغيرة في هذا الكون الواسع عليه، أن يعود إلى ربّه خاضعاً مستغفراً لفساده الّذي انتشر في البرّ والبحرـ
هذا التيّار احتفل بالصّور على طريقته الخاصة ، مضمّناً في تعليقاته آياتٍ قرانيّةً تدلّل على أسبقيّة النصّ القرآني في الحديث عن هيئة السماء وانفجار النجّوم وحركة الشمس والقمر، مؤكّداً أن الصّور ما هي إلا دليلٌ آخر جديد على صدق رسالة الإسلام .
من وجهة نظر أخرى جاءت أيضاً ضمن المنظور الدينيّ ذاته ،لكنّها وجهة نظر مشّكّكة بمصداقية هذه الصّور وصحتها ، بل وتشكّك بقدرة وكالة ناسا في الوصول إلى الفضاء، جدل كهذا بالطبع ليس حكراً على العرب وحدهم ، فملايين البشر حول العالم ينتقدون الرواية الرسميّة حول مدى حقيقة وصول الإنسان إلى القمر ،أو مدى صحّة الصّور التي تتحدّث عن كروية الأرض! هذا الجدل القائم لا يبدو أنّه سينتهي يوماً ، لكنّ العقل العربي لا يأخذ الأمر بمفهوم ” نظرية المؤامرة” وحسب ، بل يرى اكثر من ذلك أن وكالة ناسا ومن خلفها من الباطنيين يحاولون إقناع البشر بتفوّق الإنسان الّذي لا حدود له ، وبأنّ كل شيء ممكن بالعلم والعلم وحده، وأنّه لا وجود لإله عظيم أوجد هذا الكون وأبدعه ، أصحاب هذا المنطق اعتبروا الصور مجموعة من الفرضيات الظنيّة والعمليات الحسابية والنّماذج الهندسيّة التي لا تغني من الحقّ شيئاً تحاول ناسا من خلالها تضليل الناس بخلق تفسيراتٍ لخلق العالم والملكوت الإلهي بدلاً من الاعتراف بربوبيّة الحقّ وفق نصوصٍ قطعيّة ، وأدلّة عقليّة واضحة .
يأتي رأي ثالث لا يرى في الصّور سوى مشاهد ولقطات أُخِذت من أفلام الخيال العلمي ،أو من مشاهد لرسومٍ كرتونيّة ، حتى أنّ البعض ربط وجود تشابه غريب بين شكل السديم النجميّ ذي الغبار وخريطة شمال الجزائر !
بدافع التندّر تارةً وبسخرية لا تخلو من اتّهام تارةً أخرى امتلأت الصفحات بردود الأفعال هذه ، ورأى فيها البعض تهيئة قريبة لالتقاط تلسكوب “جيمس ويب” صوراً للكائنات الفضائية والصحون الطائرة في الفضاء البعيد، تمهيداً لإقناع الناس بوجودها !
الرأي الرابع جاء بمجموعة من التعليقات التي تظهر استياء أصحابها من الميزانيّات المهولة التي تقوم حكومات الغرب برصدها لاكتشافات علميّة قد تكون ذات أهميّة معرفيّة للبشر حقّاً ، لكن بالطبع وليسوا وهم لاجئون داخل خيمة ينتظرون من يتصّدق عليهم بكسرة الخبز ، تُراهم لا يجدون الوقت لرفع رؤوسهم نحو السماء متأملين نجومها ، وإن فعلوا فهي نظرة ضعيف يسأل ربّ السماء من فضله بعد أن أضاع حقّه جبابرة الأرض .
إذأ برأيهم هو صرفٌ في غير مكانه ، حسبة صغيرة فقط كافية لنعلم كم طفلاً جائعاً حول العالم سينام دافئاً إن جمعنا ملايين الدولارات التي تمّت بعثرتها في الفضاء ! .
الرأي الخامس بنكهة سياسيّة ، يرى مناصروه أنّ هذه الصوّر جاءت في هذا الوقت تحديداً –بعيداً عن جدل المصداقيّة – لإظهار مدى التفوق الأمريكي ليس على الأرض بل في الفضاء أيضاً ، أصحاب هذا الرأي يرون في هذه الضجّة الإعلامية للحدث “بربوغاندا” تغطّي على الهزيمة الامريكيّة وقلّة حيلتها امام الدبّ الروسي في الحرب الاوكرانيّة الدائرة حاليّاً ، مشهد يعيدنا إلى أيام الحرب الباردة وسباق التسلّح ، هي حركة مكشوفة كما يصفها البعض ، وخطوة تنطوي على ضعف ٌ كبير مُنيت به الإدارة الأمريكيّة ، جعل الرئيس بايدن شخصيّاً حاضراً في هذا المحفل العلميّ الذي لا يفقه منه شيئاً ناهيك بالطبع عن مدى فهمه بالشؤون السياسيّة والبروتوكولات الدولية .
أمّا الرأي السادس والأخير ،الرأي الأعمق ذلك الصادر عن أبناء العلم وأصحاب الفكر الوجودي ، الّذين رأوا في الصور إنجازاً علميّاً حقيقيّاً وخطوة صغيرة للبشرية نحو إنجاز أعظم ، لكن فرحهم بهذا الإنجاز لم يأخذ الكثير من وقتهم ، ليصدّروا أصابع الاتّهام نحو مجتمعاتهم يصفون تخلّفها وضعفها العلميّ والتكنولوجي ، يتباكون على حال الطالب العربي الذّي لا يفقه من علم الغرب شيئاً ، يولولون بقولهم أن عدد السنوات الضوئيّة بيننا وبين الغرب أكبر بكثير من تلك التي بيننا وبين النجوم الّتي في الصور، يشكون إلى الله اقتراب موتهم قبل ان يروا بأمّ أعينهم بلادهم وقد أصبحت على قمّة هرم العلم والمعرفة
هذا الرأي يقف أمامه المرء خجلاً شاهداً على ضعفه وقلّة حيلته ، كيف لا هو مواطن من دول العالم الثالث لا يملك من أمره سوى الانبهار والتصفيق، او التكذيب والاستهزاء .
إلا أنّ بعض متبنّي هذا الرأي يقعون –من وجهة نظري- في فخّ المغالاة عندما ترى بعض التعليقات تستهزئ بأولئك الّذين يسألون الناس عودةً صادقة إلى الله ليصلح أحوالنا ، تراهم ينفرون من التعليقات الدينيّة –على سذاجة كثير منها – ويرون أنّ العمل والاجتهاد والمناهج المدرسيّة وتطوير البنيّة التحتيّة التكنولوجيّة هي وهي وحدها القادرة على إنشاء حضارة تداني الغرب وتتفوّق عليه ، متجاهلين أن للعقل العربي خصوصيّته “فنحن أمّة أعزّها الله بالإسلام ” مفتاح عزّتنا هو الإسلام ،بالطبع هذا لا يعني إهمال جوانب العلم الأخرى فالحياة تقوم على التكامل ، ولكن بنظري أن بناء الإنسان الفكريّ يبدأ ببناء العقيدة والأخلاق ، نحن بحاجة إلى العودة إلى منظومة التربية الإسلامية بعيداً عن المتشدّقين بمصطلحات التربية الحديثة ، منظومة تعمل على بناء جوهر حقيقيّ بعيداً عن شكليات استظهار القرآن عن ظهر قلب ، وكم من حافظ لا يعمل بما حفظ !
اعتقد أن خلق بيئة تربويّة أخلاقيّة واضحة هي الخطوة الأولى التي ستقودنا ربما إلا ما وراء تلك النجوم والمجرّات
وأنت أيّها القارئ ، شاركنا برأيك أين انت من الآراء السابقة وكيف تدلّل على صحة رأيك ؟؟
نراكم في التعليقات .