تطرّقتُ في المقال السابق –عزيزي القارئ –بإسهاب إلى الممارسات الوحشيّة الّتي اتّبعها الأوروبيّون ضد السكّان الأصليين في العالم الجديد وهو ما أسميناه حينها “مرحلة الهدم “، هذه المرحلة التي ما كانت لتسمح بوجود أدنى نوع من التعايش السّلميّ بين الطرفين ، وعندما بدأت مرحلة البناء باتت الحاجة ملحّة للأيدي العاملة ، ومن هنا اتّجهت الأنظار نحو إفريقيا .
يذكر التاريخ –عزيزي القارئ –أن العلاقات بين قارّتي أوروبا وإفريقيا كانت معدومة تقريباً نظراً لعاملين أساسيين : الأول : التواجد الإسلامي القويّ في شمال إفريقيا، وتزايد حالة العِداء خصوصاً بعد سقوط الاندلس ، اما الثاني فكان عاملاً جغرافيّاً إذ إنّ حركة المدّ والجزر في المحيط الأطلسي ، وقلّة خبرة الملّاحين الأوروبيين جعل من هذا التواصل أمراً شبه مستحيل.
إلا أنّ حمّى الاستحواذ على أراضي وثروات العالم الجديد ، وما نتج عنها من تطوير في صناعة بناء السّفن وأدوات الملاحة، سمحت للأوروبيين برحلات استكشافية نحو السواحل الغربية لإفريقيا طمعاً في استجلاب العبيد للعمل في أمريكا.
يوكّد العديد من الباحثين أنّ الاستيطان السريع للأوروبيين في العالم الجديد ما كان ليكون لغيرهم من الأمم ، والسبب في ذلك حاجة الممالك الأوروبيّة إلى طرق تجارة جديدة وأراضٍ جديدة كسوق ، في ظلّ هيمنة الدولة العثمانية التي شكّلت تهديداً تجاريّاً وسياسيّاً ودينيّاً لأوروبّا، ولعلّ هذا التحليل –عزيزي القارئ –يقدّم لك السبب الّذي من أجله لم يأبه المسلمون بالتّمدّد لأراضٍ جديدة أو نسبها إليهم –آنذاك- رغم أسبقيّتهم في الوصول إليها ، بينما كان الدّافع لدى الأوروبيين أقوى وأشدّ .
دخول الأوروبيين إلى إفريقيا لم يكن الأوّل في تلك الفترة ،فانتشار المسيحيّة في إفريقيا بدأ منذ القرن الأول الميلادي وتمّ بناء العديد من الكنائس وإرسال العديد من الإرساليات الهادفة لزيادة أعداد المسيحيين دون الالتفات- في وقتها- إلى أي مكانة استراتيجيّة لإفريقيا وسكّانها .
إلا أن ظهور الإسلام كقوّة عظمى في فترة قياسيّة وامتداده في مصر وشمال إفريقيا ، وتجاوزه “بحر الرّوم ” نحو الأندلس ، كلّ ذلك في أقل من مئة عام على وفاة النّبي صلى الله عليه وسلّم ، دفع رجال الكنيسة إلى إعادة توطين وجودها بالإرساليات التبشيريّة لدعم المسيحيين ووقف المدّ الإسلامي ،وبهذه العودة بدأ الأوروبيّون ينظرون إلى إفريقيا نظرة جديدة لا كأرض ٍ تحوي أنصاراً لهم في الّدين، بل كملاذٍ محتمل لإعادة أمجاد أوروبّا ، فإفريقيا بلاد الماس والذّهب، وأرضٌ للعبيد -وفق قانون العنصرية السائد وقتها-وطريق جديد نحو الهند بعيداً عن بلاد “المحمّديين” كما كان يصف المسيحيون المسلمين في تلك الفترة .
بدأت عمليّات استعباد سكان إفريقيا –غرب ووسط إفريقيا تحديداً – في الفترة الواقعة بين 1440-1833م،
واتّخذت عمليّات استجلاب الرقيق العديد من الأساليب ، فقد قام بعض الأوروبيين بغزو سواحل غرب إفريقيا واختطاف ما وصلت إليه أيديهم من الرجال والنّساء وترحيلهم للعمل كعبيد ،كما استغلّوا نفوذ سادة القبائل في إفريقيا ،فقاموا بإغرائهم بالهدايا الاوروبيّة كالكحول، والأسلحة، والمصنوعات المختلفة، ليسهّلوا لهم عملية استرقاق البشر، وأخيراً ولضمان استمرار وجود العبيد، غذى الأوروبيّون الخلافات والنّزاعات المختلفة بين القبائل لاستمرار عمليّات السّبي والبيع لتجّار العبيد .
بالطبع لا نستطيع القول أن جلّ العبيد الّذين تمّ نقلهم إلى العالم الجديد في البداية كانوا من المسلمين ، إذ إنّ شمال إفريقيا –المغرب العربي اليوم- ومصر كانا أقوى من أن يحاول أي أوروبيّ التفكير في غزوهما فكريّاً او عسكرياً –ناهيك-عن أنّ طبيعة سكان هذه المناطق ليسوا من العرق الاسود ، ولا ينبطق عليهم قانون العبيد ، كما أنّ تجّار العبيد كانوا في معرِض البحث عن مكسب مادّيّ بعيداً عن الخلفيّة الدينيّة للعبيد الّذين يتاجرون بهم ، فما همّهم إن كان مسلماً أو مسيحيّاً أو وثنيّاً ؟؟
إلا أن تاريخ إفريقيا يوثق الكثير من حالات الاضطهاد لمسلمي إفريقيا الّذين وعلى كثرة أعدادهم كانوا يُعتبرون أقليّة في بلادنهم، حالات الاضطهاد هذه كانت في مجملها ردود أفعال على فتوحات المسلمين ،أو محاولة لتهديدهم إزاء قضايا عالقة بين الطرفين، ولعبت الكنيسة الأوروبيّة دوراً كبيراً في تعزيز الوجود المسيحيّ وتأكّدت من تسلّمهم لمراكز الحكم ، وهو الامر الّذي سهّل لاحقاً عمليات ترحيل السكان كعبيد من قِبل بعض “حكّام إفريقيا ” أنفسهم كما سبق وقلنا، ولا مانع في التّخلّص أو التّخفيف –إذا جاز التعبير –من بعض الرّعايا غير المرغوب فيهم –ولو بشكل غير ممنهج – على مدار 400عام من الاضطهاد العنصري المقيت .
بذلك تكون الظروف الجديدة قد ساعدت اوروبا على تشكيل خطوط تجاريّة جديدة بعيداً عن الدولة العثمانيّة : تمثّل الخط الأول بتصدير الكحول والأسلحة إلى أوروبا ، والثاني عمليات تصدير العبيد إلى أمريكا ، والثالث منتجات المستعمرات الأمريكيّة التي تمّ إعادتها إلى اوروبّا
يوثّق التاريخ –عزيزي القارئ – خروج أولى السّفن المحمّلة بالعبيد من إفريقيا عام 1526م ، عن طريق السّفن الإسبانية والبرتغاليّة نحو البرازيل ، هل لك أن تتخيّل نفسك معي –عزيزي القارئ-وأنت تُنتَزع فجأة من بين زوجتك وأولادك ،أو من مزرعتك معصوب العينين ، مكبّل اليدين والقدمين لا تكاد تجد مسافة كافيّة بينهما للمشي ، يدفعك من الخلف رجالٌ ملامحهم لا تشبه ملامحك ، ولسانهم يرطن بما لم تسمع به من قبل ، تدقّ ألاف المطارق في رأسك تحاول أن تفهم ما يجري حولك وفجأة ، يُغادرك تراب القارّة السمراء الذّي طالما وطئتَهُ بقدميك العاريتين أنت وأجدادك من قبلك ، ملمس الخشب تحتهما يبدو غريباً وغير مألوف لك ،تُلقى في بطن ذلك الوحش الكبير ككيسٍ من الخِرق البالية ، الظلام من حولك ، واكثر من ذلك الأرض تمور من تحتك ، ترتجف وكأنك لقمة ٌ في بطن حوت ٍ عظيم ، يسير الوقت بطيئاً ، يتعاقب عليك الليل والنّهار ، دون أن تدري كم تعاقباً مرّ .
كلّما طالت الطريق انكمشت معدتك لتخرج ما فيها على قليله ، وازداد انكماشك على نفسك تفكرّ فيمن فارقت وعلى من أنت مُقبل. تتوقّف رحلة العذاب فجأة ، تسحبك أيادٍ قاسية تنتشلك من عمق ذلك الشيء المسمّى سفينة ، ينزعون عنك عصابة العين ، يستقبل وجهك أولى النسمات منذ وقت خلته دون نهاية ، وبفطرة ابن الأرض وعندما تلامس قدماك شاطئ الأرض تدرك بمرارة التائه دون دليل أنك لم تعد على الأرض التي كنت تعرف ، الشمس ليست شمسك ، والهواء ليس هواءك ، وهذه الأرض لا تعرِفك ولا يبدو أنها حقّاً ترحّب بك .
تقف في طابور النخاسة يتلقّفك المشترون هذا يريدك في مزرعة القطن ، وآخر في البناء ، وثالث رأى فيك عبداً صالحاً لتكون خادم بيته .
لعلّ الصّورة التي نسجتُها لك من الخيال –عززي القارئ –أحاول فيها ان أستشعر وتستشعر معي مدى الألم الّذي عاناه الأفارقة الأوائل الّذين هُجّروا قسراً عن أوطانهم .
في البداية كان التعامل مع الأفارقة الأوائل الّذين وصلوا أمريكا لا يختلف كثيراً عن التّعامل مع العمّال الفقراء القادمين من أوروبّا ، فقد كانوا يعملون بعقود موثّقة تماماً كالبيض، إلا أنّ ساعات العمل الطويلة وظروف العمل القاسية ، وكذلك الظروف المناخية لعبيد المستعمرات الشمالية جعلت التّمرّد يتزايد بين صفوفهم .
لاحقاً لتلك الفترة ، ونظراً لدخول الفرنسيين والبريطانيين على خط التّوسع والتّجارة في العالم الجديد، أصبحت عمليّة استجلاب الأفارقة للعمل بعقود أمراً غير مقبول في ظلّ ازدياد الطّلب على الأيدي العاملة للعمل في مزارع البنّ، والكاكاو، والتّبغ ،والسّكّر، والقطن ، وبناء السّفن ، والخدمة في البيوت ، الامر الّذي نتج عنه صياغة قانون عرفيّ بتصنيف العبوديّة كفئة عرقيّة ، وما انسحب عليه من اعتبارات ، فالعبد الأسود مملوك لسيّده وكذلك ذريّته إن كانت من عبدة “أمة” مملوكة ، ومنذ ذلك الوقت تمّت معاملة القادمين من إفريقيا كالبضائع تماماً .
يقدّر الباحثون عدد العبيد الّذين تمّ تصديرهم من إفريقيا بما يقارب 12مليوناً ، ويرى البعض أن هذا العدد هو ما وصل إلى أمريكا فعلاً بينما فاقت الأعداد العدد المذكور ، لكنّ الكثيرين منهم ماتوا خلال عمليات النّقل غير الشرعيّة ، وغير الآمنة ، كما قضى العديد منهم لدى عملهم في ظروف طبيعيّة بعيدة كل البعد عن بيئتهم الجغرافيّة ، خاصّة أولئك الّذين عملوا في المستعمرات الشّماليّة .
وفيما يخصّ تجارة العبيد، يُطلق الباحثون الأفارقة على عمليّات الاستعباد والنّقل هذه باسم ال”معفا” ، أو الكارثة الكبرى الّتي طالت أعداد كبيرة من سكّان إفريقيا الّذين انتُزِعوا من ديارهم وأهليهم قسراً ، ناهيك عن استعبادهم وسلب إرادتهم .
وقد انقسم الرأي الاوروبيّ في مؤتمر الأمم المتّحدة حول العنصرية الّذي انعقد في دوربان عام 2001م ، بين معتذرٍ، وأسفٍ، عمّا حصل لإفريقيا وسكاّنها من اضطّهاد واستعباد إبّان تلك الفترة ،إذ أيّدت كلٌّ من ألمانيا وإيطاليا “الاعتذار” بينما رفضت إسبانيا وفرنسا وبريطانيا الاعتذار ، وأكّدت أنّ “الاعتذار “قد بفتح الباب لاحقاً بمطالبات بتعويضات ضخمة للدول الإفريقيّة ..
وللحديث بقيّة