من الفرزدق أشعر شعراء العرب إلى فلاديمير بوتين أمير الصقالبة :ـ
أمّا بعد :ـ
فاعلم أيّها الأمير أنّي من زمانٍ غير زمانك، ومن بلاد ٍما كان لقومي في عصري أن يسمعوا فيها ببلادك ، وأنّ خطباً جللاً كان قد أصاب هذه الأرض من فوقي، حتى ظننت أن القيامة قد قامت من تحتي ، فنفضّت غبار تربتي عن جسدي ووقفت أعتصر الفكر لأدرك ما يدور من حولي .
وإنّي قد علمتُ أن حالنا قد تبدّل من بعد عزّةٍ إلى أسوأ حال، وأن شعوب العرب على يد أعدائها تتجرّع الموت الزّؤام ، فبات مَلك الموت قاب قوسين او أدنى والناس باتت تعيش في أزمة .
يتناوب على احتناك رقابنا شرقٌ وغرب ، وسادتنا عن ظلمهم لضعافنا في صمت ، تتلهّى عقولهم بكرسيّ عرشٍ وما هم بحاكمين، وتتسابق أيديهم إلى ثروات الأرض وما هم إليها بواصلين، فانقلب ميزان الأرض بعد عدل، واستنسر البغاث وهم أضعف الخلق .
وقد تناهت إلى مسمعي سيرة أعمالك، وأنك عن انكسار ميزان العدل لست براضٍ ، فأقمتَ الأرض في الشرق من حولك ، وانقلب عدو الامس وصديق اليوم كلّهم ضدّك ،فما تبديل القائم بهيّن ، ولا عودة الناس عن أصنام فكرهم بيسير، وإنّي لأعلم أنّك لست بخيرٍ منهم، ولا استقامة الأمر عندك خيرٌ من جورهم ، وقالوا فيك “أنّك أهون الشّرّين” ولعلّك تعلم أن أهون الشّرّين شرٌّ بذاته ، إن أُمِن منه بطشٌ لم يُطمَع منه بخير .
وإنّي على حداثة وجودي بينكم ، عرفتُ من قومي ميلاً نحوكم ،والمغلوب أيّها الأمير مولعٌ أبداً بتقليد الغالب كما قال ابن خلدون ، يحثُ الخُطى إثره كالقافلة في إثر حاديها.
وحالنا معك ليس بخير ٍمن حالنا مع أعدائك ، وكلكم عندنا –إن صحّ القول – في ميزان واحد ،إلا أنّ النفس تهوى التغيير ، وتنزع من حين إلى آخر نحو التجديد ،إلا أنّ توق العرب للانعتاق من نير الغرب إلى بسطة ، كحال الغريق الّذي يتعلّق بقشّة ،ولكنّهم قالوا لولا الأمل لبَطُلَ العمل !
إيّها الأمير : إنّ بيننا وبين بني جلدتكم تاريخ طويل ، كالبحر بمدّه وجزره ، وهو حال الأمم فقد قالوا ” الأيام دول ” وفي السياسة لا عدوّ دائم ولا صديق، ويبدو أن ولاة أمورنا قد ربطهم بالغرب ميثاقٌ غليط ، فلا يعلم قومي أنمنّي النفس بأملٍ جديد، أم نركن إلى ما عهدناه عند سادات الغرب من ذلّ مهين .
فاسمع مني هذه المقالة لعلّي وإياك نصل إلى حلِّ وسيط في هذه المتاهة .
نحن –العرب-أيّها الأمير قومٌ لنا في الحروب أيّامٌ خلّدها التاريخ، ففي الجاهلية اقتتلنا، وإلى الروم مِلنا بسيوفنا، ومنهم إلى الفرس تارة ً أخرى ، نتنازع مواطن الكلأ والماء، ونتسابق على الحظوة عند كسرى وقيصر .
وجاء الإسلام أيّها الأمير –وقد علمتُ أن قرابة ربع رعاياك من المسلمين – فأنار الجزيرة وما حولها، وهذّب قوّتنا ووجّهها وجهة الحقّ، ففتحنا بـ”لا إله إلا الله” أصقاع الأرض، وبلغنا في الادب والعلم والعدل مبلغ النّجوم وغاية الأرب .
وكان منّا الخلفاء والولاة والسلاطين ، بسطنا نفوذا وصل حدود الصين ، إلا أنّ الطمع سيّد الشرور ، وفي سبيل الجاه يُنتهَكُ كلّ محظور.
وكان فينا زمنٌ أصابنا فيه رهاب الخوف والجزع على العرش وما اجتمع إليه من مُتَع، وخفنا غدر القريب قبل البعيد ، فأحاط ولاة أمورنا أنفسهم بالحُجّاب ، واتّخذوا من رعاياكم ورعايا غيركم من غير العرب الجواري والخُدّام، فكان منكم الحاجب والوزير ، والجارية التي تنجب للخليفة كل وريث، فاجتمع إلى الدّم العربي كلّ غريب ودبّ الوهن المفضوح للبعيد قبل القريب ، وقد قال من سبقني أن ” الدّهر لا يبقى على حدثانه “، وهو أمرٌ ليس بغريب .
دارت الأيّام وكأنّما بدأنا عصراً جاهليّاً جديد،شرقٌ وغربٌ وحربٌ ونحن بينهما حائرين ، تارةً ترانا مع الغرب نعقد الاتفاقيات ونشتري فتات الخبز بكلّ غالٍ وثمين ، وتارةً تضجّ فينا رياح الثورة والشباب فنحمل الرايات الحمر، وعن عقيدة دحر الإمبريالية – الاشتراكية كما تسمونها- ترانا منافحين .
وشاء ربّي وربك أن تميل الكفّة نحو الغرب إلى حين ، فاستعبدوا الناس بعد ان أفهموهم أنّه نظامٌ عالميّ جديد ،الحريّة جوهرة عقده وحقوق الإنسان فيه لها كل تقدير .
ولو كانت أفعال سادة الخلق كأقوالهم أيّها الأميرـ ما ضاع حقٌ يوماً لضعيف ،ولكان لهذه الدنيا شأن غير ما نراه وإياك من سفك دماءٍ وتشريد .
طغيان القطب الواحد –هكذا أسميتموها- وفي نظام كهذا ، انت لا تحتاج إلى قائد محنّك ولا إلى سياسيّ مفوّه ، ولا حتى مقاتل صنديد ، فالقِبلة واحدة والمِحجّ واحد، والطريق مرسومٌ، والهدف مرصود، والأمم في سقوطٍ كل يوم ٍ نحو الحضيض
نهب ثروات ، وسلب حريّات، عولمة للأفكار والاذواق ،بعثٌ للنزعات ، ودفعٌ لتعزيز الأقلّيات ، وإعلامٌ يروّج لكلّ قبيح وغريب ،فتَرانا حائرين بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.
قول هذا القطب هو القول الفصل ، وروايته هي الحقيقة والتاريخ ، وقادته هم أنبياء العصر ، وإعلامه صوت باطلهم المتلبّس بصوت الحقّ المبين .
رضعنا أفكارهم بحليبٍ أبقارهم المدلّلة ،وشهدنا على بطولاتهم بإنقاذهم البشريّة من الشرّ في أفلامهم الهوليوديّة ، وشهدنا على معاناتهم –بالهولوكوست المزعوم – بكتب تاريخ ٍتداولتها مدارسنا ،وبهرتنا إنجازاتهم بسبرهم لما فوق السماء وما تحت الأرض –كما يدّعون – .
ولاة أمرنا تحت نير كلمتهم، كجنيّ المصباح إن أُمِروا أطاعوا، وبسطوا ثروات شعوبهم وكرامتهم تحت أقدامهم ، يمدوّن لهم في الظلم والغيّ والاضطهاد ، فإن رأوا منهم ميلاً فالربيع العربي لهم بالمرصاد ،كالراعي ينشر أغنامه في المرعى فإن هشّها بعصاه اجتمعت على طريقٍ واحد .
وإنّي بعد هذا كلّه أيّها الأمير أرى أنّ ميلنا إليكم نزوةُ سرعان ما تهذّبها عصا الراعي إن لوّح بها من بعيد ، وإنك إن راهنت على شعوبنا فاعلم أن قلوبهم ربما تكون معك ولكنّ سيوفهم مع بني الناتو.
ولله الامر من قبل ومن بعد
الفرزدق