مروان
كادت قدماي تزلّان أكثر من مرّة وأنا أصعد السلالم المغطّاة بالديباج الأحمر نحو الطابق الثاني ، بينما تتوسّد شمس ذراعي تجرّ نفسها بخطواتٍ هزيلةٍ تآكلها الخوف، وهي تردّد كمن يلهج بدعاءٍ ملهوف: فاضل .. فاضل يا رب .
لم أكن بأحسن حالاً منها ، لولا تمالك فاضل لنفسه للحظات ٍقبل أن يفقد وعيه ناهراً إياي بالابتعاد وترك أمره لرجال المرافقة الّذين وصلوا أخيراً بعد وقوع الكارثة طالباً منّي حمايتها والاعتناء بها ، لكنتُ سقطتُ فريسة الألم والنّدم على ما حلّ به، وأنا الّذي قطع على نفسه وعداً بحمايته وافتدائه بنفسي ما حييت .
أمّا خلفي فقد كانت الصّورة عبارة ً عن لوحة ٍ سرياليّة عجيبة ، اختلطت بها الألوان والأصوات، الكلّ مذهولٌ عن الكلّ ، والكلّ يهرول مبتعداً بعيداً عن الكلّ ، المقاعد تتناثر في الصّالة ، والكاميرات انتصبت وحيدةً تسجّل مشهد القيامة بصمت،
الجميع يتدافع بحثاً عن مخرج ٍ من صالة الجحيم هذه ،أمّا القاتل فكان قد اختفى سريعاً وكأنّه تبخّر.
أستمرُ بصعود السلالم، لا أدري حقاً أأسند أنا شمس أم هي من تسندني، كيف حدث ذلك فجأة ؟؟ لا أعرف ، كل ما أفكّر فيه الآن هو فاضل ، هل مات ؟ لا، لعلّه مصابٌ لا أكثر ، لقد كلّمني قبل لحظات ، أما كان عليّ أن أنقذه ؟؟ ولكنّي فعلت، كانت الرّصاصة الأولى جرس الإنذار الّذي أيقظ فيّ كل الحذر، فسحبته بعيداً عن الخطر، لكنّ رصاص الغدر كان أسرع منّي ، ولكن ، ما حيلة المرء أمام الرّصاص ، حتى أعظم الجيوش وأعتى الرجال يقفون بلا حولٍ وقوّة أمام رصاصة الغدر .
لا، لست السبب في ذلك، بل يبدو أنّ الأمر متعلّقٌ بعلاقتي بفاضل، فأنا قضيت عمري دائم البحث عنه لأتبع خطاه واستظلّ به ، وهو دائما يهرب مني، أو تأخذه الأيام بعيداً لأعاود البحث عنه من جديد. كم مرّةً هربت منّي حتى الآن يا فاضل ؟! هذه هي المرّة الثالثة التي تتركني فيها خلفك ، ولطالما سامحتُك، فأنت ما كنت لتتركني رغبةً منك في ذلك ، ولكن يبدو أن الحياة تستلذّ تفريق الأحبّة ، وتستعذب جراحات قلوبهم .
وصلتُ وشمس الجناح الخاص ، كانت المرافقة قد سبقتنا إلى هناك وقد مدّد الرجال فاضل على مقعد ٍ طويل وثير من الخميلة ، واستغرقوا هم باتّصالاتهم مع بقيّة الفريق لتأمين المكان واستدعاء الطاقم الطبيّ الخاص.
نظرةٌ واحدةٌ فقط كانت كافية ليدبّ في قلبي هلعٌ قاسٍ لم أذق مرارته من قبل ،ارتجفت قدماي من تحتي فأفلتُّ ذراع شمس لأهوي على الأرض خائر القوى ، كان جسد فاضل مسجًّى على المقعد، وقد غرقت سترته البيضاء بالّدم وكأنها تعكس لون المقعد المخمليّ من تحته، أما وجهه فكان شاحباً قد غزته صُفرة الموت ،سرت قشعريرةٌ كالصقيع في جسدي ، وخيّل إليّ أنّي أرى الموت من حولي على هيئة أشباح بوجوه ٍ مخيفة .
استيقظتُ من ذهولي على صوت شمس ، يا إلهي شمس ! إذا كان هذا حالي فكيف حالها هي الآن ؟؟
وعلى غير ما توقّعت كانت شمس قرب فاضل تمسك بمعصم يديه اليسرى متحسّسةً نبضه تارةً ،وواضعة ً أذنها قرب قلبه لتتأكد من ضرباته تارةً أخرى ، تتفقّد عينيه يمنة ويسرة ، تقرع بيدها على بطنه ، وتفتح فمه بحثاً عن زفير، كانت تتصرّف كطبيبٍ خَبُر من هذه المواقف ما جعله يتعامل معها كواقعٍ روتينيّ يوميّ ، لتعلن بعد ذلك : مروان : إنّه حيّ ، تعال ساعدني .
-مدّد جسده ، يجب أن يكون الرأس على مستوى الجسد .
-ماذا لو أذاه ذلك؟ شمس ، دعي الأمر للأطباء سيأتون حالاً .
– لا وقت لدينا ، هيّا ساعدني .
أمسكتُ رأس فاضل ورفعت الوسادة من تحته ليستقرّ على المقعد ، بينما أخذت شمس تمزّق ملابسه حول مكان الإصابة بقوّة ، كان الدّم يتدفّق كماء الجدول، أخذت تدور برأسها يميناً وشمالاً كمن يبحث عن شيء .
-أريد قماشاً ، مروان أعطني منشفة من الحمّام .
أسقِطَ في يدي ، لم أجد سبيلاً سوى الامتثال لأوامرها ، كانت كلماتها صارمةً خالية ً من التردّد ، هل كانت شمس طبيبة ً قبل أن تصبح كاتبة ؟؟
خطوتُ سريعاً نحو الحمّام لأحضر المنشفة ناسياً أمام شجاعتها ما دبّ فيّ من وهن، أمسكت شمس المنشفة وأخذت تضغط على الجرح بكلتيّ يديها ، كنت أظنّها ضعيفة ً تخاف منظر الدّم ! ألا يجب أن تكون كذلك ؟! .
بعد برهة دخلت الحراسة ومعها الطاقم الطبيّ ، الدكتور عبد القادر بلحاج طبيب فاضل هنا في المغرب وصديقه ، تنحّت شمس تاركةً الأمر للطبيب، الّذي شرع بمجموعة من الحركات بدت لي تماماً كأفعال شمس قبل قليل .
-إنّه حيّ ، وما زال يتنفّس ، يبدو أنّ الرصاصة أصابت أحد الشرايين الكبيرة ، لكنّها لم تصل العظم ، ولا أعتقد أنّ هناك نزيفٌ داخليّ ، هكذا راحت تصف الحالة للطبيب وكأنها زميل مهنة .
كانت تتحدّث بينما أخذ صوتها يضعف شيئاً فشيئاً ، يبدو أنها بحضور الطبيب أخيراً استنزفت أخر ما بقي لديها من شجاعة ، كان صوتها متهدّجاً ،وجسدها مرتجفاً ، وملامح التعب والخوف أصبحت ظاهرة أكثر من أي وقتٍ مضى .
ناداني الطبيب دون أن يلتفت إليّ قائلاً : سيد مروان ، السيدة مريم تحتاج للراحة ، وبعض الماء يفي بالغرض .
نبّهني كلام الطبيب إلى الأمانة الملقاة على عاتقي ” مروان ، في غيابي إياك أن تفارق شمس أو أن تعرّضها للخطر “
اقتربتُ منها آخذاً بيدها ، لم تكن ترغب بترك فاضل وحده مع الطبيب ، بعد إلحاح جلسنا على مقربة ٍحيث انتصبت طاولة مستديرة صغيرة الحجم ومن حولها مقعدان كبيران ، أمسكتُ كأساً من الماء وناولتها إياه ، شربته بشغف العَطِش التائه في الصحراء، ومسحت ببعضه عرقاً بارداً راح يتصبّب من وجهها .
جلستُ أرمقها بإعجاب، لعلّ فاضل محقٌّ في حبّه لها ، وهو الّذي فضّلها على كثير من الفتيات الّلاتي كنّ في متناول يده ، كنت أقول له ” بعيداً عمّا حدث في باريس لا زلت تستطيع كسب قلب أيّ أميرة فرنسية أو مغربيّة ” كان يضحك من قلبه ويقول ” لا أريد أميرة ، أريد ملكة تأسر قلبي “.
حتى وهو مشارفٌ على الموت ، لا ينفكّ يردّد اسمها ،لم يكن ليسمح يوماً لأحدٍ بالاقتراب منها أو النهوض بأي شأنٍ يخصّها ، كان وحده فقط قائماً بأمرها، سعيداً بأن يلبّي أدنى طلبٍ منها –وهي التي لم تكن تطلب الكثير – فإن لم يكن هو حاضراً حولها، انتقلت المهمّة إلى مروان .
وعلى قدر سعادتي بثقته الكبيرة بي ، لم أكن لأسلم من ذلك الشعور الخفيّ بالغيرة من شمس ، كنت معارضاً لعلاقته معها تماماً في البداية، لكن يبدو أن المثل الإنجليزي القائل “أن الانطباع الأول هو الأخير” كان متسرّعاً وقاسياً، فسرعان ما اندمجت شمس بمجتمع الشركة والبيت لاحقا،ً وباتت خلال فترة قصيرة محور حياة فاضل وكل ما يملك.
“إنّها ساحرة”، هكذا قلت مرّة لفاضل ، “لا ترخي جانب الحذر ، أرجوك أنت لست حملاً لصدمة جديدة ”
لكنّه على غير عادته كان واثقاً من حبّها له ، لا بل قل كان واثقاً من حبّه هو لها ، حتّى أنّه كاد يضربني يوماً لشدّة ما غضب منّي ، كانت تلك المرّة الثانية الّتي يحاول فيها فاضل ضربي ،المرّة الأولى كانت عندما قرّرتُ ترك الجامعة لأساهم في مصاريف البيت هناك في باريس ، وهذه كانت المرّة الثانية ، ممّا لا يدع مجالاً للشّك أن قيمة شمس في حياة فاضل كقيمتي عنده .
من العدل إذن أن أحاول ، وحقيقة ًلم أندم على ذلك، شعور الغيرة ذاك أخذ بالتّبّدد يوماً بعد يوم، بعد أن عرفتها جيداً ،لم تكن تحاول كسب فاضل يوماً على حسابي ، ولم تغيّر قلبه عليّ ، بل على عكس ذلك أسرتني تماماً كما فعلت به، وهكذا مضت الأيّام، كلّما زادت محبّتها في قلب فاضل ، زاد خوفي عليها ، خوفي ممّا قد يحدث لفاضل إن هو فقدها ، فقلبه لن يحتمل انتكاسة أخرى ، وأنا لن أحتمل بعدي عنه .
اقترب الدكتور عبد القادر منّا بعد ما يبدو أنّه قد أنتهى من معالجة فاضل .
-إنّه بخير حتى الآن، لم يكن الجرح عميقاً جداً ، كما أنّه لم يصل العظم ، ولا أثر لأيّ نزيف داخلي ، تماماً كما وصفت السيّدة مريم ، بصراحة أنا مستغربٌ تماماً ، هل تلقيتِ تدريباً طبيّاً قبل الآن يا سيدتي ؟؟
-نظرت شمس إلى الطبيب إلا أن عينيها كانت توحيان بأنّها في عالم آخر ، مضت ثوانٍ ثقيلةٌ من الصمت ، ارتأيتُ أن أقطعها بتفسير ٍ منطقيّ
-لقد حصلت على دورة في الإسعاف الاوّلي عندما كانت في الجامعة .
-دورة في الإسعاف الاوّليّ لن تمنحها كلّ هذه الفطنة ، يبدو أنّها كانت ستبرع بالطّبّ تماماً كما برعت في الأدب .
على أيّة حال ، لقد أعطيته مسكناً يساعده على النّوم وتجاوز الألم ، وعلّقت المحاليل اللازمة ، كما أن هناك ممرّضة ستبقى بقربه ، وسأمرّ عليه كل بضع ساعات .
حمل طاقم التمريض فاضل على نقّالة خاصة بعناية ودلفوا به إلى غرفة النّوم التي كان بابها مفتوحاً على البهو الفاخر.
دخلت شمس خلف فاضل ، وجلست بجواره على السرير ، كان في عالم ٍ آخر لا يحسّ بنفسه ناهيك عن من هم حوله ، شرعت تبكي ، هذه هي المرّة الأولى التي أراها فيها تبكي ، لطالما كانت متّزنةً وواثقة من نفسها، رغم نعومة مظهرها تستشعر القوّة تشعّ منها ، وكأنّها امرأة حديديّة .
هل عليّ أن أوقفها ؟ لا ، أنا أيضاً أريد البكاء، ولكن يجب أن أتمالك نفسي طالما بدأت هي الأمر .
خرجتُ من الغرفة إلى البهو، وإذا بأحد المرافقة يهمس في أذني ، يبدو أنّ الشرطة قد وصلت وتريد أخذ أقوالنا، خرجت من الجناح وإذا بضابط شرطة ببزّته الرسميّة السوداء ،وبشاراته الحمراء على الكتف يقف أمامي بجسده العريض الضخم وطوله اللافت ، ووجه بشوش لا يخلو من صرامة ما تعهده من رجل عسكريّ منضبط .
بادر الضابط إلى مصافحتي معرّفاً : أنا المقدّم حكيم الإبراهيمي ،قسم الشرطة المركزيّة لمحافظة الدّار البيضاء.
-أهلاً بك سيّدي ، مروان بن رويسي محامي السيّد فاضل ومدير أعماله .
-تشرّفت بمعرفتك، هل لديك صلة قرابة مع السيّد فاضل ؟؟
-في الحقيقة أنا ابن عمّه ، زوجته هنا أيضاً في الداخل ، كما ترى الوضع متوتّر جداً هنا ، لا أعلم، إن كان بإمكاننا تأجيل أخذ الاقوال حتى الغد على الأقل ؟
-نظراً لخصوصيّة وضع السيّد فاضل الاجتماعي والصّحي كذلك ، فلا بأس ، الأمر ينطبق عليك أيضاً، وكذلك السيّدة مريم ، إلا أنّي سآخذ أقوال عناصر الأمن والشركة التابعين لكم ، أسوةً بموظفي الفندق .
-لا بأس يا سيدي ، وسأتأكّد من جريان الأمور بالسلاسة المطلوبة .
-شكرا لك يا سيد مروان ، كما أطلب منك أنت والسيّدة مريم عدم مغادرة الفندق لأيّ سبب حتى أخذ أقوالكما تحت طائلة المسؤوليّة، أنت رجل قانون وتعرف الإجراءات جيّداً .
-بالطبع سيّدي، سيتمّ الالتزام بما طلبت إن شاء الله .
-كما أنّي سأترك بعض الحراسة من الشرطة هنا أمام باب الجناح نظراً لحساسيّة وضع السيّد فاضل ، ومنعاً لضوضاء الصحافة ، إنّهم ينتظرونكم في الخارج على أيّة حال .
الصحافة! ، يا إلهي ، ها قد وقعنا تحت أضراسهم ، ما شكل الاخبار الّتي سيتمّ بثها الآن عن فاضل وشمس ؟؟
لا بدّ وأنّهما حدث السّاعة الآن في المغرب ،ولا بدّ أن آلات التّصوير المنتصبة في المؤتمر الصّحفيّ ،سجّلت كلّ ما حدث ، وأخذوا ببثّه على القنوات كافّة .
قطع صوت الضابط حبل أفكاره مطمئناً : لا تخف في الوقت الحالي تمّت مصادرة جميع آلات التّصوير التي سجّلت الحدث ، ولن يتمّ نشر أيّ شيء قبل انتهاء التحقيق .
أراحه هذا قليلاً ، رغم علمه بأساليب الصحافة الملتوية في نشر الأخبار ، وبراعتهم في التّسريبات ، والّتي نادراً ما يتمّ التعامل معها بعقوبة ٍ قانونيّة .
غادر الضابط الفندق تاركاً وراءه بعض عناصر الحراسة على باب الجناح ، واستغرق مروان لساعة أو أكثر في مكالماتٍ هاتفيّة محليّة ودوليّة فالخبر قد تسرّب والجميع يسأل عن الوضع .
دخلت نجوى الجناح بأسلوبها المعهود مع محاولة فاشلة للأسف لتصنّع بعض الجديّة حتى في مثل هذا الموقف العصيب ،اقتربت من مروان بهدوء وسألت بوقار مصطنع
-كيف حال فاضل الآن ؟ .
-حالته لا تسرّ ، ومع ذلك فهي مستقرّة والحمد لله .
-آه ، الحمد لله ، إذن اسمع الخبر الآتي ، -وعادت إلى حبورها السابق الذي لم تستطع مفارقته اكثر من دقيقة –
أسهم الشركة ترتفع في البورصة ، الأخبار عن فاضل كان لها مردودٌ إيجابي على العمل ، تخيّل ! .
تنهّد مروان بيأسه المعهود منها، وأجابها بنفاذ صبر .
-هذا أمر طبيعي ، قديماً كانت بعض الفضائح تأخذك إلى الجحيم ، لتسلبك كلّ ما تملك ، وتفعل بحياتك فعل النّار في الهشيم ، وبعضها على سوئه يجعل منك مادّة تتداولها الصحافة وتجذب إليك المال والانتباه والمصالح .
لم تكن هناك شروط ٌأو قوانين تتنبّأُ بطبيعة نصيبك من الفضيحة الواقعة ، ولا مقياس لمعرفة ردّة فعل الجمهور على ما يحدث .
فعلى سبيل المثال ،على الرّغم من تأييد الشعب الأمريكي وحبّه للرئيس الأسبق “بيل كلينتون” إلا أن فضيحة ” لوينسكي” أطاحت به وبصورته أمام الجمهور الأمريكيّ ، وحوّلت ما بقي من فترة رئاسته إلى جحيم ٍ حقيقيّ .
بينما فتحت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتّحدة والبروبوغندا الّتي أثارها الغرب ضد الإسلام ، باب الفضول أمام شعوب العالم التي لم تكن تعرف الكثير عن الإسلام والمسلمين، ودفع الآلاف منهم لاعتناق الإسلام في ردّ فعل عكسيّ غير متوقّع .
أمّا اليوم مع انفتاح العالم بفضل مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ، فقد أصبحت الفضيحة فعلاً مصطنعاً ،مدروساً ومتعمّداً ، يهدف إلى تحقيق الرّبح السّريع والانتشار الواسع ،فلا عجب أن يقوم فنّانٌ أو رجل أعمال بإطلاق إشاعة ما عن نفسه، أو علاقاته ،أو عمله ليخطف الأنظار لفترة ويصبح حديث الإعلام و(ترند) ، ويخرج جمهور من التّافهين للتضامن معه ، دون أن يعلموا أن أصوات تعاطفهم قد أكسبته الملايين .
لن يستغرب إذا ما افترضت الشّرطة أن ما حدث مع فاضل اليوم قد يكون عملاً مدبّراً من الشركة ، لكسب التّعاطف لصالح شمس ، ورفع أسهم الشركة في الوقت ذاته .
فاضل رجلٌ فاضل –اسم على مسمّى- ما كان ليلجأ يوماً للكذب ليحقق الشّهرة لنفسه ، في أحلك أوقات حياته فضّل قول الصّدق ليسحب من رصيد شهرته وسمعته وماله وحياته خلف القضبان ، على أن يستدرّ تعاطف الجمهور بالتّنميق والتّباكي .
-يبدو أنّك تستمع بإلقاء المحاضرات على مسمعي أنا تحديداً .
-أريدك أن تفهمي الوضع فحسب ، قد يكون ما حدث لصالحنا ، لكنّه يقرّبنا أكثر من دائرة الشّك .
-لقد أخذت الشرطة أقوالي، ماذا عنك ؟؟
-ليس بعد، تمّ تأجيلي حتى الغد ، بالإضافة إلى شمس وفاضل .
– كان اليوم شاقّاً ، والسّاعة تقترب من التّاسعة ، هل تحتاجني في شيء آخر ؟؟
-الآن لا ، لكن غداً صباحاً كوني هنا عند العاشرة ، ولا أريد تصريحات ٍ غير محسوبة هنا وهناك .
– (بتهكّم) تصبح على خير .
عدّت إلى الجناح الّذي أصبح خالياً الآن إلّا من فاضل وشمس وممرّضةٍ تراقب الوضع كل بضع دقائق عن كثب ، يبدو أنّ شمس قد نامت بعد طول بكاء ، عيناها متورّمتان وأنفاسها غير منتظمة ، جلستُ بقرب الطاولة الصغيرة وأخذت نفساً عميقاً هو الأول منذ ساعات ، وما كدّت أحرّك كأس الماء عن الطاولة حتى استيقظت شمس ، ودون أن تلتفت حولها أخذت تجسّ نبض فاضل مرّة أخرى وتمسح بيدها على جبينه وخدّه .
-لا تقلقي ، سيكون بخير إن شاء الله .
يبدو أنها وأخيراً كانت تبحث عن فرصةٍ لتعبّر عما يجول في خاطرها، ودون أي مقدّمات انطلقت قائلة :
-أنا قتلته يا مروان ، أنا السبب فيما حدث له .
لم اتوقّع سماع هذه الكلمات تحديداً تنطلق من فيه شمس ، كان صوتها يائساً وحزيناً، اتّجهت صوبها مواسياً
-ما هذا الّذي تقولينه يا شمس؟؟ نحن لا نعرف شيئاً عن الامر بعد ، لا تخرجي باستنتاجاتٍ ظالمة .
-هذه هي الحقيقة ، فاضلٌ إنسانٌ محبوبٌ من الجميع ، ما كان ليرغب أحدٌ بقتله ، لطالما كان أمام الناس ، ولم يتعرّض يوماً لأذًى ، حدث ذلك كلّه فقط لأنّي كنت معه ، الامر كلّه بسببي ، بسبب كتبي ، واندفاعي غير المسؤول .
هنا كان صوت شمس قد بدأ يعلو ، وجسدها يضعف أكثر ، أسندتها بيدي محاولاً سحبها بعيداً عن فاضل ، وفي الوقت ذاته دخلت الممرّضة الغرفة معتقدةً أن خطباً قد حدث لفاضل ، توجّهت إليها بالكلام قائلاً :
-فاضل بخير ، لكن أرجو منك أن تحضري قرصاً مهدّئاً للسيدة مريم لو سمحت .
انطلقت الممرّضة مسرعة نحو البهو وعادت تحمل الدواء، أخذت كأساً من الماء، وبصعوبةٍ أجبرنا شمس على تناوله ، جلست على المقعد القريب من السرير تلتقط أنفاسها ، بينما قلت لها بلهجة صادقة :
-الدكتور عبد القادر يقول أنّ إسعافاتك الأوليّة كانت سبباً رئيساً في إنقاذ حياته .
-بل قل كانت محاولةً لإصلاح ما قمتُ بإفساده .
-شمس ، هوّني عليك ، على الأقل أنت أنقذت حياته بينما كان عليّ أنا فعل ذلك .
-لو لم تسحبه باتجاهك يا مروان ربما كانت الرّصاصة قد استقرّت في قلبه الآن .
-ومع ذلك لا يمكنني القول أنّه كان إنقاذاً ناجحاً ،أنت أصلحتِ ما قمت أنا بإفساده .
-لماذا تلوم نفسك إلى هذا الحدّ ؟؟
-تقع على عاتقي مسؤوليّة حماية فاضل مهما كلّفني ذلك .
– لماذا؟؟
-هو عهد قطعته على نفسي منذ زمن ٍ بعيد .
-هلّا أخبرتني بأمره .
-عندما قَدِمَ فاضل من الرّيف ليعيش في بيتنا في الدّار البيضاء، كان ذلك بعد وفاة أمّه ، قام أبي بتسجيله في مدرستي ، ودخل الصّفّ ذاته ، رغم فارق السّن لعدم وجود مقاعد كافية في صفّه المفترض ، وعدم استعداد المدرسة للقادم الجديد فجأة .
لم يكن فاضل مبالياً بالدّراسة ،وكاد يتّفق طاقم التّدريس كلّه على غبائه وفشله ، كان يهتمّ فقط بحصّة التدريبات الرياضيّة وحصّة التاريخ .
-انفرجت شفتا شمس عن ابتسامة صغيرة وقالت : مبحثان غير متقاربين على الإطلاق ، ولكنّي لا أعتقد أن شخصاً كفاضل يمكن أن يكون بمستوى الذّكاء الّذي تصف .
-إطلاقاً ، الأمر أنّه لم يكن يرغب بالدّراسة ، كان يحطّ من قدر نفسه عمداً ، بدا حزيناً على الدّوام ، ولا يوجد على لسانه سوى كلمتي الهجرة والسّفر .
-لماذا كان يفكرّ بالسّفر وهو في تلك السّنّ الصغيرة ؟
-لا أدري ، لكنّه كان خالي الرّوح يائساً كارهاً كلّ ما حوله ، وخاصة والده والبيت .
-هذه هي المرّة الأولى التي أسمع بها عن حياة فاضل الخاصّة ، وما قصّة ذلك العهد إذن ؟
-ذات يوم ، وفي إحدى حصص التاريخ الّتي كانت الأقرب إلى قلب فاضل ، فتح المعلّم نقاشاً حول المهن المستقبليّة ، وعن مدّى التبدّل الحاصل في الأهميّة الاستراتيجيّة لمهنة ما دون أخرى وفقاً لتغيّر ظروف التاريخ والمجتمع .
حصّة التاريخ كانت على فكرة عبارة عن لعبة تنسٍ ثنائيّة بين المعلّم وفاضل الّذي بحكم سنّه وثقافته كان الأقدر منّا جميعاً على مجاراة أفكار المعلّم والرّد بقوّة على جميع القضايا بحججٍ واعدة .
أما نحن البقيّة فكنّا جمهور المتفرّجين، تارةً تجدنا في صفّ فاضل ، وتارة أخرى مع المعلّم ، دون أن نعي حقيقة جوهر النقاش الدائر بينهما .
-هل كان عنيفاً في النقاش حقّاً ؟ فاضل الّذي أعرفه لم يرفع صوته يوماً حتى في أصغر الموظفين من حوله .
-فاضل الّذي تعرفينه الآن مختلف بسببك يا شمس ، أنا لا أعرف حقاً كيف فعلتِ ذلك معه ، لكنّي موقنٌ تماماً انّه معك أفضل حالاً مما كان في أيِّ من فترات حياته .
-أتمنى أن تكون محقّاً يا مروان .
-أخذ المعلّم بعدها يطرح الأسئلة على الطلبة ، يستفسر منهم عن أحلامهم ورغباتهم عن مهنتهم المستقبليّة وسبب اختيارهم لها دون غيرها .
تنوّعت إجابات الطلاب على تقليديّتها ما بين الطبيب، والمهندس ، والمعلّم ، والصّحفي وغيرها ، وعندما جاء دور فاضل صرّح بطريقة دراميّة واثقة بأنّه يرغب في أن يكون مغنّياً .
-هل كان يغنّي لكم في المدرسة أو في الإذاعة الصباحيّة ؟؟
-على الإطلاق ، باستثنائي أنا الّذي كنت أعيش معه تحت سقفٍ واحد ، لم يسمع أحد يوماً أن لفاضل صوت ٌ جميل .
-وكيف كان ردّ فعل المعلّم ؟؟
-استغرب الأمر تماماً ، قال له ” شخصٌ بجرأتك يستحقّ أن يكون طبيباً أو محامياً مدافعاً عن حقوق العباد ، او صحفيّاً ناقلاً للحقيقة .
-أجاب فاضل : للحقيقة طرق كثيرة ٌ لإظهارها ، يمكن للحقيقة ان تكون كلمةً في كتاب ،أو شهادة حقّ أمام قاضٍ ،أو مواساة من قِبل طبيب ، أو إبداعاً من مهندس ، أو تعزيزاً من معلّم ، أو صوتاً عذباً يسلب ألم الروح في صوت إنسان موهوب .
كان يتكلّم والكلّ ينصت بما فيهم المعلّم وكأنّ على رؤوسهم الطّير ، حتى أنا الّذي ظننت أني أعرفه ، بدا لي لوهلة ٍ غريباً وجريئاً على غير عادته ، ابتسم المعلّم بلطفٍ واقترب من فاضل قائلاً : ولماذا ترغب أن تكون كلمة الحقّ عندك لحناً يا فاضل؟؟ ، هنا صمت فاضل وكأنّه استنزف قدرته على الكلام بعد كلّ ما قاله ، عاد المعلّم ليقول : يبدو يا ولدي أن في قلبك ألماً لن يخرجه إلّا صوت ٌ صادحٌ يبلغ عنان السّماء ، ولكن احذر إن كنت تريد الغناء بصدق ، فستجد دائما من يحاول إسكاتك والوقوف ضدّك لردّك عمّا تفعل ،إنّ اعداءك تحت الأضواء أكثر وأشرس من أولئك الّذين يعادونك عندما تكون في الظّل ، سيحاولون إيرادك مسالك المهالك ، وكلّما كانت شهرتك أكبر كان ألم انكسارك إن استطاعوا أعظم .
رد فاضل بهدوء : كلّها حروب ٌ يا سيدي ، وعلى الإنسان أن يكون مستعدّاً ليخوض معركته الخاصّة بشجاعة .
تالياً انتقل المعلّم إليّ وأنا الذّي كنت زميله في المقعد ، وسألني : وأنت يا مروان ماذا تنوي أن تصبح عندما تكبر ؟؟
كان السؤال مفاجئاً لي ، لم أكن قد فكّرت حقاً بما أرغب ، لطالما كانت علاماتي جيدة ، لكنّي لم أكن أفكّر بالمستقبل ،في ذلك الوقت لا أدري هل هي لحظة استشرافٍ للمستقبل ، او إلهامٌ لحظيّ ، لا أستطيع تفسير الامر حقاً ، حتى لساني كان قد انطلق يجيب بشكل منفصل ٍ عن جسدي ، وأجاب المعلّم دون تردّد : سوف أصبح محامياً .
-ابتسمت شمس قائلة :إجابة محدّدة .
-تقولين هذا لأنّني أمامك وقد أصبحتُ محامياً حقّاً ، لكن في حينها كانت الإجابة مفاجأة لي قبل أي شخصٍ آخر، حتى تبريري لاختيار هذه المهنة كان كالوحي الإلهي .
-بم أجبت ؟
-عندما سألني المعلّم لماذا تريد أن تصبح محامياً، التفتُّ نحو فاضل وقلت ، لأحمي فاضل من أن يورده الأشرار مسالك المهالك .
-هل كنتَ تعرف ماذا تعني مسالك المهالك ؟؟
– ضحك مروان ضحكة صغيرة وقال: ليس تماماً ، قمتُ باقتباس الإجابة من كلام المعلّم ، ولكنّي حقيقة ً كنت أعني كل حرفٍ قلته .
-كيف كانت ردّة فعل المعلّم ؟؟
-ابتسم وصرّح امام فاضل قائلاً : هنيئاً لك يا فاضل لقد حصلت على الجنديّ الأول لخوض حروبك .
-وكيف قابل فاضل إجابتك ؟؟
-تفاجأ هو كذلك ، ولكنّه ابتسم لي حينها ، نعم ، أذكر ذلك جيداً كانت ابتسامة ً دافئة ، ومنذ ذلك الحين لم نفترق ، حتى عندما تركني وهاجر إلى فرنسا كنّا معاً بأرواحنا إلى أن التحقتُ به ،وهناك كان لي كعائلتي لم يبخل عليّ بالمال أو الحنان ، كان يصنعني على عينه بكلّ حبّ، وكنت كما قال المعلّم قد عاهدت نفسي أن أكون جنديّ فاضل الأول ، وربما الوحيد إن لزم الأمر ليخوض بي معاركه وينتصر بها بعيداً عن أذى الأشرار، بهذا على الأقل أحاول تسديد ألطافه الّتي شَمِلَني بها حتى الآن ، أشكر الله على وجوده في حياتي ، وأحسبها نعمة ً أن أراه سعيداً وكفى .
مسح عينيه بسرعة من دموع ٍ كادت تسقط ،وأكمل قائلاَ:
لكن يبدو أن فاضل قد حصل اليوم على جنديّ أقوى ومنّي ، وأشدّ مهارة .
-أنت تعنيني بهذا الكلام ؟؟
-ومن غيرك أيّتها الساحرة؟ ، يبدو أنّ على الجنود القدامى التّرجّل وإفساح المجال للقادمين الجدد .
-ومن قال لك أني أسمح باستقالة جنودي طالما أنا حيّ أيّها الأحمق ؟؟
كان صوته ضعيفاً لكنّه واضح ٌ ولا يخلو من نبرة ساخرة ، انتصبتُ وشمس في آن ٍ واحد متّجهين صوب فاضل الّذي فتح عينيه أخيراً بعد طول انتظار مرير، تكلّف بصعوبةٍ رسم ابتسامة ٍ صغيرة ٍ على وجهه ، ونظر إليّ قائلاً :هل تتبعني لتسدّد دينك يا مروان ؟؟ اعلم إذن أنّك سدّدت ديونك منذ زمن ٍ بعيد ، إلا أنّ هذا لن يُعفيك من مرافقتي حتى أموت .