رصدنا في الجزء السابق من هذه السلسلة حال سكّان إفريقيا الّذين تمّ نقلهم بطرق عديدة –غير شرعية – إلى العالم الجديد للعمل كعبيد عند العرق الأبيض ، ورأينا كيف تظافرت مصالح سكّان العالم الجديد مع تجّار الرقيق ورؤساء بعض القبائل في إفريقيا لتسهيل –ما عُرِف لاحقا- بأنّه أكبر ظاهرة استعباد عرقيّ في التاريخ .
لم يكن كلّ العمّال الّذين تمّ استجلابهم للعمل في أراضي العالم الجديد عبيداً في البداية ، فقد شَهِدَت الولايات الأمريكيّة موجاتٍ من الهجرة سواء كان ذلك من إفريقيا أو أوروبا ، هؤلاء المهاجرون بحثوا عن حياة أفضل بعيداً عن حياة الفقر في بلدانهم ،فاستعانوا بتجّار الرقيق الّذين قاموا بنقلهم إلى الأراضي الأمريكيّة ، وقاموا بتأمين عقود عملٍ لهم لسداد ديون الرحلة ـ ليصبحوا بعدها أحراراً. إلا أنّ هذا الحال لم يستمرّ طويلاً ،فقد اشتكى سكّان المستعمرات من عدم قدرتهم على السيطرة على عمّال العقود ، الّذين رفضوا ظروف العمل القاسية، وعدد ساعات العمل ، وطبيعة الأجر ، كل ذلك في ظلّ حاجة ملحّة للأيدي العاملة ،من ناحية أخرى رفض السادة التّخلّي عن بعض العمّال بعد قضائهم فترة كافية في العمل وتحوّلهم إلى عمّال مهرة يبحثون عن عمل في أماكن أخرى بأجور أعلى ، الأمر الّذي جعل من استعباد سكّان إفريقيا الحل الأمثل لحل هذه المعضلة . ونتيجة ازدياد عمليات الاسترقاق الإفريقي وازدياد أعداد العبيد الأفارقة ، كان لا بدّ من تنظيم هذه المجتمعات وضبط العلاقة بين العبد والسّيد ، إلا أنّه لم يكن هناك في ذلك الوقت أي قانون رسمي يسمح باستعباد البشر ، من هنا كانت نظرية تفوّق العرق الأبيض هي العنوان الأبرز الذّي برّر لاحقاً كلّ الممارسات الوحشيّة الّتي تعرّض لها العبيد ، وتمّ تطويع الخطاب الديني الكنسي لشرعنة الاسترقاق ، بل وخرجت أحزاب ومنظّرون يًنادون بتعزيز تجارة الرقيق موضّحين مدى أهميتها للعبد والسيّد على حد ٍ سواء ! على الصعيد الاجتماعي حرص السادة على بناء مجتمعات خاصّة للسود تضمن توريث صفة العبودية للجيل اللاحق دون الحاجة إلى استقدام عبيد جدد من إفريقيا ،أُطلق على هؤلاء لاحقاً مسمّى العبيد “المحليين ” ،وضمن السّادة لهؤلاء العيش مع عائلاتهم وأبنائهم في مكان واحد يخدمون سيّداً واحداً ،أو يعملون في المزرعة ذاتها . إلا أن الفصل التّام بين مجتمعيّ السادة والعبيد لم يكن ممكناً قطعاً، إذ ظهرت العديد من الولادات الناشئة من زواج ٍ مختلط ، واستطاع بعض السود استصدار حكم ٍ لهم بالحريّة اعتماداً على انحدارهم من أب ٍ أبيض ، هذا الأمر الّذي اعتبره البيض تهديداً لمصالحهم دفعهم إلى إصدار حزمة من القوانين الجائرة ، منها أن ابن الأمة (العبدة) يلتحق بأمّه بصفته عبداً مهما كان أصل والده ، كما تمّ تحريم أي علاقات بين النساء البيض والرّجال السود ، إلا أنها لم تمنع علاقات الرجال البيض بالنّساء السّود، فالقانون يضمن له التّبرّؤ من الذّرية ، ويزيد من أعداد العبيد بشكل مجّاني . لاحقاً لهذه القوانين صدرت مدوّنة فرجينيا عام 1705م الّتي اعتبرت كل البشر المستوردين من بلاد “غير مسيحيّة ” عبيداً برسم القانون ، هنا نلاحظ –عزيزي القارئ- أن نصّ المدوّنة هذا أجاز استعباد أفراد القبائل من السّكان الأصليين، والهنود ، وبالطبع الأفارقة المسلمين ، وهذا دليل آخر على أنّ عمليات استجلاب الرقيق من إفريقيا كانت تستهدف المسلمين في المقام الأول . اختلفت معاملة العبيد في الولايات المتّحدة باختلاف المكان والزّمان الّذي عاشوا فيه ، ولكن بالمجمل كانت المعاملة سيئة جداً فقد كان يتمّ جلد العبيد باستمرار وتعذيبهم عند أقلّ خطأ يصدر عنهم ، بالإضافة إلى القتل والاغتصاب ، ولم يكن غريباً أن يستغلّ أحد السّادة من خطأ صغير ذريعة للتنكيل بأحد العبيد ليكون عبرة للباقي على مبدأ ” شرّد بهم من خلفهم” من ناحية أخرى كان محظوراً على العبيد أيّ نوع من التعليم والتّثقيف عدا ذلك الّذي يُسهم بشكل فعّال في إنجاز الاعمال المنوطة بهم ، كما أن أنشطةً كالتّعليم أو الطقوس الدينيّة تقتضي بالضرورة التّجمّع وهو ما لم يكن مسموحاً به خوفاً من حياكة الدّسائس أو التنظيم لهروبٍ جماعيّ . وفقاً للمنظومة السابقة نستطيع أن نعرف عن مدى الكمّ الهائل من الخصائص الدينيّة، والثقافية، والعرقية، واللّغويّة الّتي ضاعت لمجتمع العبيد الّذي انصهر بدوره في بوتقة الثقافة الأمريكيّة ماسحاً كل ما يربطهم بوطنهم الأم . شغل العبيد في المستعمرات الشمالية العديد من الأعمال غير المتعبة إجمالاً ، تمثّلت في خدمة البيوت ، والحرف والمهن الخدماتيّة كالحدادة والنّجارة والبناء ، كما أن تعامل أسيادهم معهم كان أفضل من غيرهم ، حيث اهتمّوا بتكوين عائلات للعبيد ، وقاموا بتثقيفهم دينيّاً عن طريق السّماح لهم بالاستماع إلى المواعظ الدينيّة الّتي كان يلقيها القساوسة على مسمع المُريدين ، والّتي بالطبع لم تكن تخلو من إشارات هنا وهناك تؤكّد على أن العبيد بشرٌ ،ولكن يقع على عاتقهم خدمة أسيادهم بإخلاص وعدم التمرّد لأن هذا قدرهم الذّي رسمته لهم السّماء . أما في الجنوب فقد كانت الأوضاع كارثيّة ، فأغلب العبيد يعملون في الحقول الزّراعيّة لساعاتٍ طويلة تحت الشّمس ، او في الصناعات الثقيلة ، وأدّى الطلب المتزايد على الأيدي العاملة هناك إلى ازدياد نسبة العبيد بحيث أصبحوا يشكّلون 65% من مجموع سكّان المستعمرات الجنوبيّة ، الامر الّذي تطلّب حزماً اكبر أو قل تنكيلاً أعظم للسيطرة عليهم. ازدادت الأمور سوءاً عندما تمّ استيطان المناطق الغربية للقارّة –كاليفورنيا اليوم- وكان هناك حاجة لأعداد كبيرة من العمال من أجل استصلاح الأراضي وتهيئتها لزراعة القطن ،ما دفع الكثير من السّادة لبيع العديد من عبيدهم بأثمان عالية للنّخّاسين وهو ما يُعرف تاريخيّاً ب “العبور الأوسط الثاني “تمييزاً له عن العبور الأوسط الّذي نقل الأفارقة من موطنهم إلى المستعمرات الأمريكيّة . ليس أسوأ من الألم –عزيزي القارئ – سوى تكراره مرّة أخرى بالقسوة ذاتها ، فمع ازدياد الحاجة إلى عبيد الزراعة في الغرب تمّ تهجير ما يقارب من مليون أفريقي للعمل في الأراضي الغربية والجنوبية ، بالطبع لم يكن العمل هناك يحتاج إلى عائلات متماسكة ، كان الطلب يقتصر على الشباب والرّجال ذوي القوّة البدنيّة ، ومن هنا أعاد المستعمر البغيض تفريق العائلات عن بعضها من جديد حتى أن الأب والابن كانا لا يُباعان للنّخاس نفسه ، وربما لا يلتقيان في ذات الأرض مرّة أخرى ، وساد عائلات المهاجرين الجدد بؤس الفراق فوق بؤس عبوديتهم ، والإنسان –عزيزي القارئ – أبيضٌ كان أم أسود يِنزِعُ أبداً إلى الحريّة ،وقد تمّ تسجيل الكثير من حالات هروب العبيد أو محاولة تنظيم محاولات هروب جماعي كانت في أغلبها تفشل وتنتهي بالتنكيل برؤوس الثورة المحرّضين عليها ، وقتلهم وصلبهم ترهيباً لمن يحاول إعادة ما فعلوه . حتى ما قبل إعلان استقلال المستعمرات الأمريكيّة عن التّاج البريطاني ، نستطيع القول أن العبوديّة في تلك الأراضي عاشت أزهى عصورها ، ولكن انقلب الحال عندما قرّر سكّان المستعمرات الانفصال عن حكم التّاج البريطاني وإعلان الولايات الامريكيّة دولة مستقلّة ، لم يتم مقابلة الأمر ببساطة من الجانب البريطاني ، واندلعت العديد من المعارك ما بين كرّ وفرّ بين القوات البريطانية من جهة وقوّات المطالبين بالاستقلال من ناحية أخرى ، فما كان من القوات البريطانيّة والتي تمركزت في أغلبها في المناطق الشمالية إلا أن أعلنت خطوة جريئة تمثّلت بوعدٍ صريح بتحرير العبيد الّذين ينضمّون للقتال إلى جانب القوّات البريطانية ، كما وعدوا من عاد حيّاً منهم بقطعة من الأرض لهم ولعائلاتهم كمكافأة لهم على مساعدتهم لبريطانيا . دبّ هذا الخبر بين تجمّعات العبيد كالنّار في الهشيم ، خاصة عندما سمعوا الأخبار التّي وصلت من إخوتهم الشماليين الّذين حاربوا إلى جانب القوات البريطانية واستعادوا حريّتهم بل واستطاعوا لم شمل عائلاتهم عليهم ، فبدأت موجات الهروب نحو الشمال والّتي قوبِلت بموجة من العنف الشديد من قبل سكّان الجنوب، وذلك نرى أنّ عمليات الاخذ والرّد بين طرفي الصراع فرضت على العبيد حريّة مشروطةً لا تُنال إلّا بالدّم . وبعد انتهاء حرب التحرير الامريكيّة بأعوام تمّ إعلان إلغاء نظام العبوديّة في الولايات الخاضعة للجمهوريّة ،الأمر الذّي أدّى إلى اندلاع حرب أهليّة بين الولايات الشمالية من جهة والولايات الجنوبيّة التي رفضت إلغاء قانون العبوديّة بشكل قاطع من جهة أخرى ، وهو ما أخّر هذه المناطق عن الدخول في الاتّحاد الأمريكي لوقتٍ طويل . لم يكن اتّخاذ قرار إلغاء العبوديّة قراراً لحظيّاً ، فقد شهدت الأراضي الأمريكيّة نقاشات احتدم فيها الأخذ والرّد حول مشروعيّة العبودية من عدمها . بعض المدافعين عن إلغاء العبوديّة اعتبروا أن ما حدث من استغلال لسكّان إفريقيا هو جريمة لن يغفرها التاريخ ، وعلى العقلاء من مجتمع الولايات الجديد الابتعاد عن كلّ ما له علاقة بالتّاج البريطاني وأوروبا ، وإقامة دستور جديد قائم على العدالة والمساواة . أما المدافعين عن العبوديّة فقد اعتبروا أن الأسود –الزنجي- هو طفل يكبر جسديّاً فقط ، ويبقى عقله صغيراً ، وعليه فهو بحاجة إلى من يديره ويقوّمه ويعلّمه . كما قال آخرون أن نهضة الأمم تحتاج إلى من يقوم بالأمور القذرة –على حدّ تعبيره – من أجل دفع عجلة الرقيّ إلى الأمام ، والعبيد بمكوّنهم الطبيعيّ الدونيّ هم من يجب أن يقوم بهذه المهمة . وجاء أحسنهم طريقة ً ليقول أن العبوديّة شرٌّ لا بدّ منه ، وهو عقدٌ ثنائيّ المنفعة فكما أن السيّد يحتاج العبد في إنجاز أعماله ، فالعبد أيضاً يحتاج إلى سيّده ليقوده ويهذّبه ، بل يرى أنّ حال عبيد أمريكا في ظلّ أسيادهم البيض أفضل بكثير من حال أحرارهم الذّين يعيشون في إفريقيا. استمرّ هذا الجدل حتى عام 1862م عندما أُعلن رسميّاً إلغاء الرّق والتمييز العنصري القائم على اللَون في الولايات المتّحدة الأمريكيّة ، ولكن سنرى لاحقاً أن ما حدث بعد هذا التّاريخ الّذي يعنون نفسه بأنّه بداية فجرّ حريّة ٍ جديد لسكّان الأراضي الامريكيّة السّود ، لم يكن سوى ذرّ رمادٍ في العيون . وللحديث بقيّة