مذ خُلِق الإنسانُ على هذه البسيطة ،وهو يحاول الوصول إلى أعلى مراحل التواصل مع القوى العظمى على اختلاف مسمّياتها لدى الشعوب، والظّفر برضاها ومحو الذّنوب الدنيويّة ، وابتدع لذلك طقوساً فنيّة روحانيّة خاصّة وأضفى عليها سمة القدسيّة، فأخذت تنتقل من جيلٍ لآخر مَحوطة بهالةٍ القداسة والحرص الشديد على تطبيقها بالطريقة الأنسب للحصول على أفضل النتائج .
وتتشكّل هذه الطقوس في العادة من مجموعة من الحركات الجسديّة الراقصة ، على إيقاع ما توفّر من أدوات ٍ موسيقيّة إيقاعيّة أو نقريّة ، يؤدّيها مجموعة من المتعبّدين والمتعبّدات بصحبة تراتيل دينيّة خاصة ، وقد يمتدّ الأمر لتناول بعض المواد العشبيّة المخدّرة، أو المشروبات المُسكِرة في محاولة للوصول إلى حالة من النّشوى ،والغياب عن الواقع المادّي الملموس للاتّحاد مع عالم الآلهة المقدّس –على حدّ تعبير أصحابها- .
امتدّت هذه الطقوس في عمق التاريخ عابرة ً القارّات لتسود معظم حضارات العالم القديم إن لم يكن جميعها ،واستمرّت حتى يومنا هذا، ونظراً لشيوعها فقد أفردت الأمم المتّحدة يوماً عالميّاً خاصّاً للرّقص يحتفل به العالم في التاسع والعشرين من أبريل من كلّ عام، حيث يقوم أتباع العديد من الدّيانات الهندوسيّة، والشامانيّة، والبوذيّة، والفودو وغيرها ، بأداء طقوس استعراضيّة راقصة على إيقاعات موسيقيّة ذات سمة دينية ترتبط بتبجيل الآلهة المتعددة لديها .
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة مدى صحّة هذه الطقوس المرتبطة بديانات وثنيّة تمتلك مئات الملايين من الأتباع كالهندوسيّة على سبيل المثال، إنما سنسلّط الضّوء على ممارسات الرّقص التّعبّديّ عند الطوائف الإسلامية ومدى مشروعيّتها ، والهدف المرجوّ منها عند معشر المُريدين .
بداية ً قمتُ باختيار مصطلح “الرّقص التّعبّديّ” عِوضاً عن المصطلح المعتمد لدى جموع المستشرقين الّذين كتبوا عن الإسلام والشّرق ووصفوا حلقات التّعبّد لدى الشيعة والمتصوّفة وغيرهم ب طقوس “الرّقص الدّيني” ،ذلك أنّ علماء المسلمين قديماً وحديثاً رفضوا هذه الممارسات واعتبروها بِدعاً دخيلة على الإسلام ، واستشهدوا على صحّة كلامهم بأنّ الرسول عليه السلام وصحابته الكرام رضوان الله عليهم لم يقوموا بطقوس تعبّديّة خاصة لله عزّ وجل ، ولم ينزل نصّ قرآني يحثّ على التّعبّد بطقوس محددة عدا ما تمّ ذكره عن شعائر الحجّ والعمرة ، وأعمال الصّلاة والتي خلت جميعها من الرّقص والتمايل وغيره من التّصرفات غير اللائقة وفقاً لمنظور الشّرع الإسلامي الحنيف ، بمعنى آخر لا يجتمع مصطلحا العبادة والرّقص في المنظور الإسلامي الرّسمي .
فقد سُئل الإمام مالك رضي الله عنه عن قومِ يأكلون ويتمايلون ويصفّقون ، ويدّعون أنّهم يذكرون ، فقال : أصبيانٌ هم ؟
قالوا : لا ، قال :أمجانين هم ؟ قالوا: لا ، فقال: ليس هذا بذكر .
وقد ذكرت المراجع التاريخيّة أن الصحابة كانوا يتمايلون كتمايل الشّجر عند الذّكر ،ولكن دون تقافزٍ واضطراب يُخرج المسلم عن هيبته واتّزانه ،وأرجعوا بداية الرّقص والتّمايل إلى السّامريّ الّذي أغرى بني إسرائيل بالتّعبد رقصاً حول العجل الّذي صنعه لهم وأدّعى أنه ربهم – تعالى الله عما يصفون – .
ومع انتشار المعازف في عصرنا الحاضر، برزت ألوان ٌ جديدة ممّا يسمى ب –الفنّ الهادف – أغانٍ ذات طابع ٍ دينيّ أو وطنيّ ، أو تعليميّ موجّه للأطفال وغيرها ، اتّخذت من الألحان وسيلة ً لإيصال الفكرة ، واستقطبت جمهور “الوسطيين” من المسلمين الّذين أقبلوا يستمعون إليها دون حرج الوقوع في إثم فاحش الألفاظ والصّور على غِرار أنواع الفنّ الأخرى .
ومع ذلك كنتُ أجد دائما ذلك التيّار الاصوليّ –إذا جاز التعبير – الّذي وإن عبّر عن إعجابه بمضمون الأغنية الهادف ، تراه مستاءً من الألحان المبثوثة ، مطالباً بنسخة ٍ خالية من الموسيقا ، وأمثال هذا النوع كثير على مواقع الإنترنت .
وكنت أعجب لهؤلاء دائما ، لماذا يصرّون على تجنّب الموسيقا حتى وإن تمّ تضمينها في قالبٍ هادف ؟!
لن نناقش مسألة موقف الإسلام من الموسيقا ، فالسّواد الأعظم من العلماء أفتى بحرمتها ، وبعضهم أفتى بدخولها في باب اللّغو الّذي لا يجب الاعتياد عليه والإكثار منه ، وبعضهم أجازها إن كانت في قالبٍ هادفٍ كما قلنا سابقاً ، ولم تمنع عن عبادةٍ أو ذكر .
يقولون أنّ العالم كلّه على اختلاف ثقافاته يتّفق على مجموعةٍ من الثوابت ” القهوة ، والشوكولاته ، والموسيقا”
فالموسيقا لغة عالميّةٌ، لوقعها أثرٌ عظيم ٌ على النّفس ،ولألحانها وقعٌ على الجسد كالسّحر ، تأخذك إلى عالمٍ آخر ، وتترجم بالنّبرة والحركة، ما لا تستطيع وصفه بفكر ، لها سلطانٌ على هوى النّفس ، تثير أشجانه ،وتترجم أفراحه .
تأخذك في نشوى يغيب فيها العقل ، ليسيطر هوى النّفس على الجسد.
بطبيعة الحال تجربة كهذه لا بدّ أنّ السّواد الأعظم من النّاس حول العالم قد خاضوا غمارها بطريقة ٍ أو بأخرى ، واستشعروا لذّة ما ينشأ عنها من متعة ،خاصّةً إذا تصاحبت مع كلمات مؤثرة تعبّر عن حالة شعوريّة تنسجم مع مزاج السامع ، فلماذا يشير الدّين إليها إذاً بأصابع الاتّهام ، رافضاً انتشارها، ومنكراً سماعها ؟؟
قبل الوقوف على إجابة هذه السؤال ،سنستعرض مثالاً ملموساً حول الموسيقا وتأثيرها على النفس والجسد ،إذ ظهر في الآونة الأخيرة على شبكة “الإنترنت” نوع جديدٌ من الموسيقا تحت مسمّى”” المخدّرات الرّقميّة ” وهي نوع من الموسيقا التي يتمّ الاستماع إليها بعد تحقيق جملة من الشروط ، وتقود سامعها للشعور بنشوة تماماً كتلك التي تحصل عليها بعد تناول جرعة من المخدّرات ، ما زالت أنواع عديدة من هذه الموسيقا حتى اليوم تخضع لأجور ماديّة متفاوتة قبل الحصول عليها ، الامر الّذي يؤكّد حقيقة تأثيرها ، فتكرار الاستماع إليها يقود صاحبها إلى الإدمان وطلب المزيد، وأثبتت العديد من الدّراسات مدى خطورة هذا النّوع من الموسيقا على الصّحة النفسيّة والجسديّة ،حيث يُؤدّي إدمانها إلى حالات من الاكتئاب والهلوسة ، والاضطراب المِزاجيّ ، لأنها تعتمد على التّفريغ الشعوري الآني الخطأ ، تاركةً بعدها فراغاً لا يمكن ملؤه .
وعلى غِرار هذا النّوع وبشكل أكثر بساطة-ظاهريّاً-، يقودنا الاستماع إلى الأناشيد الدينيّة أو الوطنية المتربطة بالموسيقا إلى الدّخول في حالة من النّشوة الشعوريّة ، فانت عندما تستمع إلى نشيد ٍ وطنيّ على سبيل المثال ، تستشعر مدى حبّك للوطن ، تردّد اسمه المصاحب للموسيقا بكل تبجيل ، وقد تذرف الدّمع ألماً على ما حاق به من ظلم ، تتمنى في تلك اللحظة أن تكون شاكي السلاح في مقدّمة الجيش ، وعندما تدور رحى المعركة إذا بك تنتقم من أعدائك وتأخذ بثأرك وثأر أجدادك ، وما إن يخبو صوت الغناء وتعلن الأغنية نهايتها ، تتنفس الصعداء تماماً كجنديّ عاد للتّو من ساحة القتال .
الأمر ذاته يحدث عندما تستمع إلى نشيدٍ دينيّ ، تترقرق عيناك دمعاً خشوعاً وندماً لما قصّرت به في حقّ الله تعالى ، تجتاحك هالة ٌإيمانيّة تتسامى فيها الرّوح عن صغائر الدنيا، يتمايل رأسك طرباً، ويلهج لسانك بترديد الكلمات على وقعٍ موسيقيّ ثابت ، وما إن ينتهي العرضّ الموسيقيّ حتى تجد نفسك كمن أدّى أعظم الفروض وأتمّ كل العبادات .
ينظر الّدين إلى الموسيقا كأداة تفريغٍ روحيّ في غير مكانه ، فالدّعوة إلى التأمّل ، والانتشاء ، واستحضار العاطفة القويّة ، لا يُعتبر عبادة ً ما لم يتم تفريغه في سياقه الشرعيّ وهو الصلاة أو الزكاة، أو قراءة القرآن وغيرها، ناهيك عن أنّ هذا التفريغ يوقعك فريسة رضا نفسيّ زائف عن نفسك، ففي استماعك إلى الأغنية الوطنيّة أنت لم تحرّر الوطن، لكنّك امتلكت شعوراً زائفاً ممزوجاً بالعاطفة الصادقة بأنّك إنسان ٌ وطنيّ ، وفي الثانية أنت لم تصلّ تعبّداً لله حقاً ، ولكنّك اعتبرت الحالة الإيمانيّة التي أدخلتك بها تلك الأغنية كافية لتخبر الله عمّا يجول في خاطرك ، كلتا الحالتين لم تقد إلى فعلٍ حقيقيّ مؤثر ، إنما كانت فقط عملية تفريغ عاطفيّ حلّت محلّ العقل والعمل المسؤول، جعلتك في الأولى بطلاً دون بطولة ، وفي الثانية عبداً دونما عبادة.
وتماماً “كالمخدّرات الرقميّة ” بعد ان تزول حالة النّشوة المؤقتة ، تعود أنت ذاتك لتنصب علم بلادك أو صفحة قرآنك أيقونةً على صفحتك الشخصيّة ، ومنشوراتك تلهج بالدّعاء الواثق والدّعم القلبيّ الخالص لله والوطن ، وبذلك يكون قدّ تمّ تحميل المشاعر بنجاح .