شمس
عشرات الخطوات تسير متسارعةً باتّجاهٍ واحد فوق صفحة الشارع الزّلقة المغطّاة بالطين الأحمر ، الضباب يلفّ المكان، والمطر ينهمر بغزارةٍ وكأنما هو كذلك منذ دهر.
مشت مع الرّكب المرتبك تحثّ الخطى لإنهاء الطريق ، يدفعها شوقٌ مجهول للوصول إلى نهايته ،الحقيبة الثقيلة تزيد عبء المسير ، والمطر يجعلها أثقل ، الطريق تضيق شيئاً فشيئاً، والأجساد تتقارب ، مكعّباتٌ إسمنتيّة تلتهم جانبيّ الشّارع، يتمترس من خلفها ثلّة من الجنود المدجّجين بالسّلاح ، يعتمرون الخُوَذ العسكريّة ، ويصوّبون فوّهات بنادقهم نحو الأجساد الّتي أخذت تتسرّب ببطء من بين المكعبات فرداً فرداً، كقطرات ماءٍ متسرّبة من صنبور ماءٍ تالف .
تقترب خطواتها البطيئة من نقطة التفتيش، تمنّت لو كان بإمكانها الطيران، لتحلّق فوق الحاجز متجاوزةً حركات الجنود الاستفزازيّة ،لكنّ حركةً واحدةً غير محسوبة ، ستكون كافية للفت أنظار الجنود، وبالتالي وقوعك في دائرة الشّك التي ربما قادتك إلى توقيفٍ طويلٍ ، وتفتيشٍ أطول ـ وربّما قرّروا بعدها وبكلّ وقاحةٍ وبرود ، إعادتك من حيث أتيت .
أخرجت بطاقة هويّتها الخضراء أمام الجنديّ ، الّذي راح يمسح بياناتها بعينيه دون اكتراث ، كانت تعلم تماماً أنه لم يقم بقراءة بيانات البطاقة ، ولم يكلّف نفسه عناء النظر في وجهها ليطابق ملامحها مع بياناتها ،كلّ ما في الأمر أنّه اعتاد الوقوف هناك كقاطع طريق ، وظيفته الوحيدة كانت التأكد من أن حياة الآخرين لن تسير كما هو مخطّطٌ لها خلال هذا الصباح ، كما هو الحال مع الصباحات الفائتة ، وربّما القادمة منها .
بعد لحظات من التأمل في بطاقتها أشار لها بالتّحرك ،أرادت أن تتنفس الصعداء معلنةً انتهاء مهرجان التفتيش اليوميّ هذا ، ولكن قبل أن تسنح لها الفرصة لذلك ، كان الجنديّ يكز حقيبة ظهرها بكعب بندقيّته صارخاً بصوتٍ مهدّد “افتخ الشنتة”
أرادت أن تقول له أنها مجرّد حقيبة كتب ، ولمَ هذا العناء ؟؟ إنها تعرف أنه يعرف ذلك تماماً ، ولكن يبدو أن هذا الجنديّ يشعر بنشاطٍ في هذا الصّباح الشتويّ الماطر، ويرغب بأداء طقوس التفتيش كاملة .همست لنفسها: أي نوعٍ من البشر هم هؤلاء ؟!
لقد اعتادت على تغليف غضبها الجارف إزاءهم بالهدوء واللامبالاة ،متصنّعة ً الطاعة العمياء في امتثالها للأوامر ،أنزلت حقيبة الظهر بهدوء، وهمّت بفتحها، عندما انطلق قربها وابلٌ كثيفٌ من الرّصاص، تشتّت على إثره الجنود مهرولين للاحتماء بمكعبات الإسمنت ،ركضت الجموع تنتشر في الاتجاهات كافّة ،صراخٌ واضطراب، احتضنت حقيبتها وأحنت برأسها فوقها ، أغمضت عينيها باحثةً في وسط المعركة عن لحظة للتفكير، نعم، هنا وفي مثل هذه المواقف لا وقت للخوف، قرار هذه اللّحظة سيحدد مصيرك في اللّحظة المقبلة، كان عليها التفكير بسرعة : بغضّ النظر عن مصدر إطلاق النّار ، سيتم الآن إغلاق الحاجز ،ولا أحد عدا حفنة الأوغاد هؤلاء يعرف متى يمكن أن يُفتح مرّة أخرى.
كان عليها أن تقرّر إن كانت ستستمرّ في طريقها ،أم أنّها ستعود أدراجها إلى البيت ،عاد إطلاق النّار ليتجدّد، ولكن هذه المرّة بصورةٍ أعنف ، حزمت أمرها : سأكمل الطريق ، وما إن رفعت رأسها عن الحقيبة حتّى داهمها أزيز الرّصاص الّذي مرّ بقرب أذنها ، فأفقدها اتّزانها لتقع فوق الأرض الطينيّة المبلّلة من تحتها غائبة ً عن الوعيّ .
-سيد مريم ، سيّدة مريم .
انتفضت مستيقظةً على صوت قريبٍ يناديها.
رفعت رأسها لتجد انّها كانت نائمة على السرير بالقرب من فاضل ، لا يزال أزيز الرّصاص يتردّد في أذنها محدثاً طنيناً مزعجاً ، تحسّست وجهها تبحث فيه عن أثر الطين ، لا شيء، لقد كان حُلماً إذاً ، نظرت أمامها حيث كان فاضل لا يزال طريح الفراش دون حَراك ،وإلى جانبه كانت الأجهزة تعلن عن حركة طبيعيّة ومنتظمة للقلب والجسد .
-سيدتي ، الدكتور بلحاج يطلب الإذن بالدخول للاطمئنان على حالة السيّد فاضل .
مسحت شمس وجهها بيديها ، ورفعت غطاء شعرها الّذي كان يطوّق رقبتها وهي نائمة ، ثمّ التفتت إلى الممرّضة قائلة: سأكون في الحمّام وأوافيكم بعد قليل، اسمحي للطبيب بالدّخول .
دلفت مسرعة ً إلى الحمّام الّذي كان يقبع خلفها في أقصى الغرفة وأغلقت الباب ،انتقلت بعينيها عبر المكان الّذي لم تنتبه لتفاصيله سابقاً رغم دخولها إليه اكثر من مرّة. انتصبت عن يمينها مرآة كبيرة ذات إطار مذهّبٍ في أسفلها حوض ماءٍ ذهبيٌّ أيضاً يعلوه صنبور ماءٍ ملتوٍ بطريقة فنيّة عجيبة ، وبقرب الحوض انتصب مقعدٌ وثير بقوائم عالية بعض الشيء ،أليس من الغريب وجود مقعدٍ هنا ؟ على الرّغم من غرابة الفكرة إلا أن الأمر قد راقها فقد كانت في حاجة إلى الجلوس .
أرخت جسدها فوق المقعد ،ملقيةً برأسها إلى الخلف ،وأغمضت عينيها متجنّبة ً –كعادتها- ،انعكاس وجهها على صفحة المرآة .
عادت تسترجع أحداث الحُلُم ، كان غريباً جداً ، وبعيداً كل البعد عن أغرب أفكارها حتى ، لا ، ربّما ما حدث لفاضل أيقظ فيها هذا النّوع من الذّكريات ،ربّما هو صوت الرّصاص ، قالت لنفسها : لو كان فاضل واعياً لما حدث لقال لها :إنّها المرّة المئة وواحد يا شمس .
تنهّدت : لعلّه مصيب ، بات الوضع يزداد سوءاً ، إلى أن وصل حدّ القتل.
اجتاحها الخوف ،كموجةٍ ماءٍ باردٍ ، أخذ يبثّ في أوصالها برودةً كبرودة الموت ، مجرّد التفكير في كونها سبباً لموت فاضل لهو كابوسٌ أكبر من قدرتها على تحمّله ،كما أنّ تفسير ما حدث والوقوف على إجابة الأسئلة مَن؟؟ وكيف؟ ولماذا؟ سيكون لغزاً ، هذا اللّغز سيتحوّل إلى كابوسٍ أفظع إن أشارت خيوط حلّه النهائيّة نحوها .
اغرورقت عيناها بالّدموع ، ما كانت لتؤذي فاضل ،بل كانت لتفتديه بحياتها ، يكفي أنّه منحها حياة ً جديدة ، واجتهد في إسعادها بشتّى الطرق ، لطالما عاملها كطفلة مدلّلة ،إنكارها لفضله سيكون تماماً كما لو أنكرت الأشجار على ضفاف النهر فضل جريانه في جذورها .
صحيحٌ أنها كانت في بعض الأوقات تضيق ذرعاً بتصرّفاته حيالها ،حرصه الزائد عليها ، واهتمامه المباشر بما تطلب وما لا تطلب، وخوفه من بقائها وحيدة ، وإحساسه بأنها غير قادرةٍ على فعل شيء دون أن يكون هناك واقفاً يسند ظهرها.
أحياناً كانت تحسّ أن فاضل استطاع صنع غلافٍ حولها كالغلاف الجويّ للأرض ، لا يمكن أن يخترق حياتها شيء دون أن يعلم هو به .
إلاّ أنّ الحقّ يُقال ،فاضل قدّم لها ذلك كلّه ،بعطفٍ وحنانٍ غامرين ، لم يكن رجلاً متحكّماً ، أو متشكّكاً متخوّفاً حيالها ،أو رجلاً عنيفاً مسيطراً ، كان يُعطي دون حساب ، بل دون أن تطلب منه حتّى ، إنّه كالبحر في سخائه ، كغيمةٍ رماديّة مثقلة ٍ بالمطر، تنثر خيرها على خصب الأرض وبورها .
أظنّه يحبّني بصدق ، لكنّي لا أعترف لنفسي بذلك ، بل لعلّي أرى أن الأمر برمّته لم يكن حبّاً، أفضّلُ القول أنّه يقف بجانبي إشفاقاً عليّ ورأفةً بحالي ، والحقيقة أنّي ما كنت لأعرف المآل الّذي ستسير حياتي إليه لو لم يكن موجوداً .
في أسوأ حالاتي مع الهواجس يغمرني إحساسٌ عارمٌ بأنّي لا أستحقه ، شعور خفيّ لا أملك حياله أيّ تفسير ، يزداد سوءاً في كلّ مرّة يُغدق فيها عليّ من طيبته وماله .
بخليط ٍ من الامتنان والشعور بالذّنب بدأت قصّتي مع الكتابة ، كنت أحتاج إلى الهروب من عالم فاضل ولو قليلاً ، عالمٍ ربما تتمناه كل امرأة على هذه الأرض ، إلا أنّ الحياة منحته لأكثر النساء بؤساً وبروداً على الإطلاق .
كتبتُ عن الفقر والجوع، عن الحرب واللجوء، عن الألم والمرض، عن الخيانة والخذلان ، معانٍ قاسية لم تكن حقاً ضمن قاموس العالم الّذي صنعه فاضل من أجلي ، كان يبتسم كلّما قرأ شيئاً لي ويقول :كيف استطعتِ رسم تلك العوالم القاتمة بهذه الدّقّة والبراعة ؟ ، وكنت أعجزُ عن الإجابة ، وعندها كان يسعفني في الإجابة قائلاً : ربما عرفت هذا كلّه في حياتك الماضية.
تتبدّل ملامحه لوهلةٍ متّخذة ًمظهراً أكثر جديّة ، يتأمّلني بعينين معتذرتين ويعود ليضحك قائلاً : لا ، نحن لسنا هنوداً ، ويتركني بعد أن يعتذر عن مقاطعتي لأكمل ما كنت فيه .
ما يؤرّقني أكثر أنّه لم يملّ، ولم يتبرّم مني ولو قليلاً ، في البداية ظننت أنّه رجلٌ ضعيف الشخصية، ذلك النّوع الّذي تتوقّف حياته كلّها على امرأة يدور في فلكها ، ويذوب في ملامحها حتى ينسى هويّته بين ثنايا عطرها .
لكنّ فاضل لم يكن كذلك النوع من الرجال ، كان رجلاً قويّاً في عطفه، عزيزاً في عطائه، صادقاً في حبّه، مهيباً في اعتذاره، وقوراً في ابتسامته، طفلاً في جنونه، كان مزيجاً غريباً ، والأغرب من هذا كلّه أنّه كان مطرباً ، صحيحٌ أنّه قد اعتزل منذ سنواتٍ عِدّة ، لكنّ مجرّد التفكير بطبيعة الوسط الّذي عاش فيه ،يجعل تصوّره على تلك الهيئة ضرباً من المستحيل ، سيكون من الأسهل أن تتخيّله فارساً عربياً عائداً من زمن البطولة والشّهامة، فارسٌ من سار إلى دائرة حماه فهو آمن ،ومن خرج منها تعرّى كورقة خريفيّة أخيرة تقاوم بيأسٍ عواصف الشتاء الثقيل .
جُلُّ ما أخشاه أن أخرج من دائرة حماه إلى غير رجعة ، وإن كنت لا أرى سبباً منطقيّاً لاحتمالٍ كهذا ، إلا أن شعوراً بالفقد والاغتراب يسيطر عليّ كلما طال بي الزّمان معه، والحقيقة أنّي لا أعلم إن كنت –عندها- سأخاف على نفسي منه ، أم عليه منّي .
تقدّمت نحو الحوض، فتحت صنبور الماء وغمرت يديها بالماء الدافئ ، ثمّ رشقت وجهها به ، يُعطيك الماء شعوراً بتجدّد الحياة عبر الخلايا ، وكأنّه يمنحك وجهاً جديداً ، ليتنا نستطيع انتزاع أرواحنا لنغسلها تحت ماء الصنبور، إلا أنّ أدران الروح أشدّ قذارةً من أن تغسلها طهارة الماء .
أعادت ارتداء شالها من الشيفون الفضيّ، الّذي انسدل فوق عباءة مغربيّة مخمليّة كرزيّة اللّون ،يزيّنها عند الصدر والخصر خيوطٌ فضيّة مميّزة ،أخذت نفساً عميقاً كسبّاحٍ يستعدّ للغوص في سباق ٍ مصيريّ ، فتحت الباب، وقفلت عائدة إلى حيث كان فاضل والطبيب .
*********************
كان الدكتور عبد القادر قد انتهى لتوّه من تغيير الضمادات، وتجديد أكياس المحاليل الطبيّة المعلّقة ،فاضل لا يزال نائماً ! ، أقلقها سكون الأموات الّذي اجتاح جسده ، التفتت إلى الطبيب وبنبرةٍ راجية قالت له :
-لِمَ هو نائمٌ حتى الآن ؟ هل من خطبٍ أيّها الطبيب ؟ لقد استيقظ ليلة البارحة وتحدّث إلينا .
رمق الطبيب شمس بنظرةٍ مطمئنةٍ، وقال باسماً : قلتي أنه استيقظ وتحدّث إليك ؟؟ لا عجب في ذلك ،هذا هو فاضل ، يشغل نفسه في القلق على الآخرين ، في الوقت الّذي يجب عليه أن يهتمّ به بنفسه، لا تقلقي ، إنّه بخير ، لا تزال الإصابة حديثةً ، كما أنّ الأدوية تحوي موادّ مهدّئة ،فمن الطبيعيّ أن ينام بعمق .
بخبرتي الطويلة مع فاضل وعاداته ،أعتقد أنّها فرصة ٌ جيّدة لينال قسطاً من الرّاحة ، هذا الرّجل لا يعرف كيف يرتاح ، إنّه بحاجةٍ إلى إجازة طويلة ، برأيي يا سيدة مريم أن هذا الموقف على صعوبته ،منحةٌ يجب استغلالها للاعتناء بصحّته .
-أترى أنّه يشكو من شيء ما ؟
-ليس تماماً ، كلّ ما في الأمر أن بعض الناس ينغمسون في مشاغل الحياة ،إلى الحدّ الّذي ينسون فيه الاهتمام بأنفسهم ، فاضل رجلٌ جادّ وحازم ، يحتاج إلى من يذكّره بنفسه بين الحين والآخر .
-أعدك بأخذ ملاحظاتك بالحسبان ، لن أسمح له بالعمل قبل مرور وقتٍ كافٍ ، سأعمل على ضمان حصوله على إجازة طويلةٍ هادئة .
-طالما أنت متأكّدة ، إذاً من الآن فصاعداً سأزوّدك بالتعليمات اللّازمة ، لعلّ لك تأثيراً أكبر عليه ، فهو لا يستمع لنصائحي مطلقاً .
-لا تقلق يا دكتور بلحاج ، ستسير الأمور كما هو مطلوب .
-حسنٌ ، لا شيء يدعو للقلق الآن ، وسأعود لأطمئنّ عليه مساءً .
استدار الطبيب خارجاً من الغرفة عندما تداركت شمس أمراً فاستوقفته سائلة ً:
-دكتور بلحاج ، عفواً منك ، هل لي بسؤال ؟؟
-بالطبع يا سيّدتي تفضّلي .
-بخصوص الإسعافات الاوّليّة التي قدّمتُها لفاضل ،أكانت ناجحةً حقّاً ؟
استدار الطبيب وأجاب : بامتياز ، أخبرني مروان أنّك على علمٍ بدورات الإسعاف الأوّليّ ، إلا أنّي ما زلت مصرّاً على أن تصرّفك الدقيق ووصفك الأدقّ لا يصدر إلى عن طبيبٍ متمرّس في المهنة ، ألديك تفسير لهذا ؟
-لا أدري ، بالطّبع أنا لست طبيبة ، ربما تصرّفت هكذا بدافع الخوف عليه لا أكثر .
-ربما ، وربّما هو الحبّ لا الخوف ، فالحبّ هو الّذي يصنع المعجزات .
خرج الطبيب من الغرفة دون أن يعلم أثر كلماته التي أصابت شمس بالصّدمة ، وتركتها ذاهلةً ، وكأنّما وقعت للتّو على اكتشافٍ خطير قد يغيّر مصير البشريّة جمعاء.
عادت أدراجها بالقرب من سرير فاضل ، تأمّلت مليّاً في ملامحه الهادئة ، رجلٌ في نهاية الثلاثينيّات من عمره ، ليس بالطويل اللّافت ، ممتلئ الجسم قليلاً عند الوسط بما لا يُخلّ في تناسقه ، حليق الشعر تماماً ، ولو كان ذا شعر لكان بنيّاً فاتحاً مُتّشحاً بخصلاتٍ ذهبيّة ،عيناه عسليّتان وادعتان ، وجهه مستدير صافٍ مائلٌ إلى الصفرة قليلاً ، له أنفٌ عريض إلا أنّ ما يميّزه حقّاً هو ملامح وجهه الوادعة الطفوليّة الّتي أعطته عمراً أصغر بعشر سنواتٍ على الأقل .
يقولون: أولئك الّذين تُظهر وجوههم ملامح أصغر من أعمارهم الحقيقيّة ،يفوق جمال قلوبهم قسوة الحياة من حولهم.
جلست قرب السرير دون أن تُفيق من ذهولها ، كيف لبضع كلماتٍ فقط أن تزيل حُجُباً غلّفت العقل والقلب لسنوات؟!
والله إن للكلمات لسحراً، ملايين الكلمات تنطلق من أفواه البشر في الثانية الواحدة يوميّاً ، لكنّ القليل منها حقّاً يمكنه تغيير العالم من حولنا .
لطالما اعتبرت نفسها من أولئك القادرين على اللّعب بالكلمات، بعيداً عن أقوال الصحافة والدّعاية ،تعلم تماماً أن مهارتها مقبولة، أجادت الوصف في مقاطع محدّدةٍ بعينها ، لكنّها لا تستطيع القول بالمجمل أن كل ما تكتبه بديعٌ أو مؤثّر، على الأقل ليس كالكلمات الّتي سمعتها قبل قليل “ربّما هو الحبّ لا الخوف، فالحبّ هو الّذي يصنع المعجزات ” ، كيف يمكن للمواقف أن تعكس الأدوار لتصبح الكاتبة طبيبة مداوية ، ويصبح الطبيب كاتباً بارعاً؟؟ .
انغمست في ذهولها الّذي لم تُفِق منه سوى على صوت مروان ، الّذي أصبح قربها دون أن تشعر .
-صباح الخير ، كيف أصبحتِ اليوم ؟
-فاضل هو من يجب أن تسأل عنه يا مروان وليس أنا .
-فاضل بخير ، قبل قليل تحدّثتُ مع الدكتور عبد القادر ، وطمأنني عن حالته ، أنت الّتي لا تبدين بخير ، ماذا هناك؟
تنقّلت ببصرها بين فاضل ومروان ، رسمت ابتسامة واثقة وحقيقيّة هذه المرّة وقالت :
-لا تقلق ، لا أعتقد أني شعرت يوماً أنّي بخير كما أنا اليوم .
-ما الأمر ؟؟ هناك شيء مختلف هذا الصّباح .
-ربّما ، ولكنّه خيرٌ ، هذا ما أستطيع قوله الآن .
-جيّد ،هكذا ستسهّلين عليّ الأمور ، الشرطة أرسلت مسؤولاً ليأخذ أقوالنا .
-فاضل ليس مستعدّاً بعد .
-أبلغت المسؤول بذلك ، سيكتفي بأقوالنا أنا وأنت في الوقت الحالي .
-لم أخض تجربةً كهذه من قبل ، ولا أرتاح للتّعامل مع الشرطة .
-لا تقلقي سيُسمَحُ لي بالتّواجد معك بصفتي محامي العائلة، ولست بحاجة إلى أن تزيدي على ما شهدناه في المؤتمر .
-ولكنّي بالكاد أعرف شيئاً لأقوله ، وماذا لو سألني عن الماضي ؟؟
-لا تتوسّعي في الإجابات ، أجيبي على قدر السؤال ، وبما يتلاءم مع تفاصيل الحدث ، واتركي الباقي لي ،سيكون المسؤول هنا في صالة الضّيوف خلال دقائق ، سأدلي بأقوالي أولاً ، ثمّ أطلب منك الحضور ، كوني مستعدّة .